مراد غالب رحل عن دنيانا في شتاء هذا العام 2008 واحد من أبرز وأهم الشخصيات الدبلوماسية المصرية المحنكة في عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر ألا هو الدكتور مراد غالب الذي تولى منصب سفير مصر لدى الاتحاد السوفيتي في فترة من أخصب فترات العلاقات المصرية ــ السوفيتية (1961-1971)، وهي نفس الفترة الأخيرة التي شهدت ذروة صعود وتراجع المد القومي الناصري في العالم العربي والتي شهدت داخليا التحول نحو الاشتراكية والتأميمات الواسعة، وقد انتهت هذه المرحلة بكل خصائصها كما هو معروف بنكسة 1967 فرحيل عبدالناصر عام 1970، فمجيء أنور السادات إلى سدة الحكم في نفس العام، حيث استدار بزاوية 180 درجة نحو اليمين بالتراجع والتنكر لكل مبادئ ثورة يوليو والإجهاز على المنجزات الناصرية المتحققة. ولعل مراد غالب هو من الشخصيات الناصرية القليلة النادرة التي رحلت عن دنيانا من دون أن تدلو بالكثير بدلوها من مذكرات وأحداث مهمة عن الفترة التي عايشها وكان شاهدا على أحداثها من موقع مسئوليته في السلك الدبلوماسي، ولاسيما أنه كان من السفراء القليلين الذين لعبوا دورا في غاية الأهمية والتأثير من موقع المسئولية في السياسة الخارجية المصرية خلال العقد الأخير من حياة جمال عبدالناصر 1960-1970 وعلى الأخص فيما يتعلق بتمتين دعائم جسور العلاقة بين مصر والاتحاد السوفيتي القوة الكبرى الحليفة والصديقة للعرب حينذاك. كما يمكن القول أيضا إن مراد غالب هو من الشخصيات المصرية الناصرية النادرة الذين حاولوا قدر المستطاع أن يدلوا بشهادات تاريخية تتوخى الموضوعية والإنصاف في الأحداث التي كان شاهدا عليها أو التي كان له أدوار معروفة ومؤثرة فيها. وهذا ما نلمسه في حوارات أحمد منصور معه في حلقات برنامجه “شاهد على العصر” التي أعادتها الجزيرة مؤخرا بعد وفاته على الرغم من طريقة أسئلة منصور التي يغلب عليها عادة الطابع الاستفزازي الأقرب إلى استجوابات “متهم” منها إلى حوار راق مع شخصية دبلوماسية لها احترامها ووزنها سواء اتفق المرء أم اختلف مع فكرها ومواقفها السياسية، ناهيك عن المقاطعات الفجة المتكررة لضيف الحوار والتحكم في تسلسل إجاباته ومحاصرته بوابل من الأسئلة الاستجوابية الاستفزازية المتدفقة حتى في عز إجاباته المهمة حول بعض المواقف والوقائع مما يثير استياء وسخط حتى المشاهد المتابع للحوار. على أي حال فإن المتابع ورغم هذا المناخ الحواري الاستفزازي الذي أدلى خلاله مراد بشهادته على العصر فإن أحاديثه لا تخلو من متعة وفائدة في اماطة اللثام عن الكثير من المواقف والقضايا التي عايشها سواء قبل اختياره سفيرا لبلاده في الاتحاد السوفيتي خلال حقبة خمسينيات القرن الماضي وقد كان حينذاك يعمل في البعثة الدبلوماسية بموسكو أم بعد تعيينه سفيرا منذ عام 1961 حتى عام .1971 وقد عاصر غالب الكثير من الأحداث التاريخية المهمة خلال كلتا الفترتين الخمسينية والستينية وأحاط بالكثير من أسرارهما بدءا من خلفيات ومقدمات أحداث العدوان الثلاثي 1956 وقبلها صفقة السلاح التشيكية بين مصر والاتحاد السوفيتي وخلفيات وأبعاد الموقف الأمريكي من العدوان ودوره في إفشاله إلى جانب الإنذار السوفيتي الشهير، ومرورا بجذور الصراع على تقاسم السلطة بين عبدالناصر وعبدالحكيم عامر منذ نهاية هذه الحرب والموقف السوفيتي واليسار المصري والسوري من الوحدة مع سوريا، وخلفيات زيارة خروتشوف لمصر عام 1964، وغير ذلك من الأحداث المهمة التي جرت في الستينيات وليس انتهاء بحرب يونيو 1967 وما تلاها من أحداث وتداعيات خطيرة. وكانت إجابات غالب في الحوار تتسم بالهدوء وبتوخي قدر معقول من الشفافية والمصارحة والنقد الذاتي الضمني وإن على استحياء للسياسات والمواقف الناصرية السلبية أو الخاطئة والتي كان هو مشاركا فيها على عكس الشخصيات الناصرية التي كانت لا تقبل أي تخطئة لعبدالناصر، وتدافع بلا حدود عن تلك السياسات والمواقف كما هو حال محمد حسنين هيكل على سبيل المثال لا الحصر. وفي إحدى حلقات برنامج منصور حكى غالب عن أسرار مهمة في علاقات مصر مع الكونغو في عهد المناضل الوطني السابق باتريس لومومبا في أوائل الستينيات، حيث كان سفيرا في الكونغو قبل تعيينه سفيرا في موسكو، وكشف كيف أنه تعرض لمحاولة تصفية هناك من قبل قوى الثورة المضادة، أو كيف لعب دورا في تهريب أفراد عائلة هذا الزعيم الوطني الى القاهرة. مراد غالب هو واحد من الشخصيات الدبلوماسية المصرية الكبيرة والمرموقة خلال الحقبة الناصرية، ولا شك ان رحيله من دون ان يدون مذكراته بالكامل خلال هذه الحقبة لهو خسارة فادحة لتأريخ وتوثيق هذه المرحلة. ولم يكن هذا الرجل يتوقع ان يترك عمله في تدريس الطب يوما حيث كان طبيبا في جراحة الأذن قبل أن ينخرط في سلك العمل الدبلوماسي عام 1953 غداة ثوة يوليو 1952 حينما اختير حينذاك الفريق عزيز المصري سفيرا لمصر فيما اختير غالب سكرتيرا بالسفارة، وتولى وزارة الخارجية والاعلام كوزير ثلاث مرات. وقدم استقالته كسفير لمصر في يوغسلافيا غداة زيارة الرئيس أنور السادات المشئومة للقدس المحتلة عام 1977.
صحيفة اخبار الخليج
17 ابريل 2008