المنشور

شهادتان في صنع الفقر والثراء (1)

في شهر مارس الفائت، وبينما الأزمة المعيشية التي تعصف بحياة عشرات الملايين من الشعوب العربية على أشدها من جراء الارتفاع الفاحش في أسعار السلع الغذائية الأساسية اتحفتنا مجلة “فوربس” بقائمتها الجديدة الخاصة بنادي المليارديرات العالمي، وتصدر القائمة ما لا يقل عن 35 مليارديرا عربيا تبوأوا مراكز متفاوتة في الترتيب العالمي، من المركز 19 إلى المركز 1062، وكان من بينهم طبقا لما نشرته “الشرق الأوسط” السعودية 13 سعوديا بإجمالي ثروات تبلغ 7،77 مليار دولار، تلتها الإمارات بخمسة مليارديرات، فالكويت ومصر لكل منهما 4 مليارديرات، فيما يبلغ مجموع ثروات الأثرياء العرب في القائمة 6،171 مليار دولار (بالحروف مائة وواحد وسبعين مليار دولار وستة من عشرة). ومن دون النظر في أسباب تراكم معظم هذه الثروات غير المشروعة التي تحقق جلها بفضل الفساد، وفي ظل غياب قانون “من أين لك هذا؟” مقارنة بثروات المليارديرية في البلدان الغربية الذين تمكنوا من تحقيقها ومراكمتها في ظل أنظمة سياسية – اقتصادية تقوم على الديمقراطية والشفافية والرقابة ومنع الاحتكار والفساد – بغض النظر عن كونها أنظمة رأسمالية – فإن لا وجه للمقارنة البتة بين أحجام ما يتبرع به المليارديرية المسيحيون العلمانيون لبلدانهم ولشعوبهم وما يتبرع به المليارديرية العرب المسلمون لبلدانهم وشعوبهم، هذا على الرغم من أن العديد من أحجام ثروات المليارديرية الغربيين تتساوى مع أحجام ثروات المليارديرية العرب. ولكي لا نتهم بالتحامل أو الحسد الطبقي تجاه مليارديريتنا العرب لنستمع إلى شهادتي اثنين من الكتاب الصحفيين ينتميان إلى البلد العربي الأول في عدد المليارديرية العرب (13 مليارديرا) بالقائمة العالمية لنادي الأثرياء ألا هي السعودية نفسها وهما أبعد من أن تتملكهما نزعة الحسد الطبقي إذ كلاهما من ميسوري الحال وكلاهما يحللان بصورة غير مباشرة ظاهرة شحة تبرعات المليارديرية العرب لشعوبهم ويكشفان دور الفساد في مراكمة تلك الثروات والفقر في آن واحد، ففي مقال للمندوب السعودي السابق في اليونسكو محمد بن حمد الديبان (الحياة 29/3/2008) تحت عنوان “أثرياء العرب ماذا قدمتم وماذا ستقدمون؟” يتناول الديبان بالنقد اللاذع بخل ونفاق مليارديرية بلاده، ويكشف زيف ادعاءاتهم بالتبرعات الخيرية والإنسانية ذات الشأن ويفضح حقيقة دوافع تقديم حتى النزر اليسير منها، حيث تعود بالمنافع عليهم في المقام الأول. يقول الديبان: “ولنا في منطقتنا العربية ولله الحمد النصيب الوافر من الشخصيات المسلمة والعربية الثرية التي كسب أصحابها البلايين الكثيرة من الدولارات الأمريكية، فهذا العدد الكبير من الشخصيات العربية الثرية، في مقابل الرقم المخيف من البلايين، يجعل الإنسان العربي يتساءل، ويتعجب في الوقت نفسه: أين هؤلاء؟ ماذا قدموا لأوطانهم وشعوبهم؟ ماذا صنعوا لمحاربة الفقر في دولهم؟ هل ردوا جميل دولهم في مقابل إتاحة الفرص التجارية في تقديم التسهيلات ومرونة الأنظمة والحوافز المجدية؟ ألا يعلم هؤلاء أن عدد الدول العربية والإسلامية تقريبا 58 دولة، نصفها تقع تحت حد الفقر بحسب المعيار العالمي؟ هل ساهم هؤلاء في صناديق مكافحة الفقر؟”. ويضيف الكاتب متعجبا: “لم يسمع الإنسان العربي بالكثير منهم من خلال المشاريع الإنمائية والخيرية! وليس لهم دور يذكر في الحياة الاجتماعية والمساهمة في تخفيف معاناة شعوبهم! لم يسمع عنهم عند طرح الحملات الخيرية لمساعدة الشعوب العربية المنكوبة! لم يتبرعوا بمشاريع في مجالات التنمية في بلادهم”. ويضرب هذا المندوب السعودي السابق في اليونسكو مثالا حيا من واقع تجربته العيانية حينما كان يتولى هذه المسئولية في تلك المنظمة الدولية.. يضرب مثالا بملياردير سعودي ممن تصدروا القائمة الأخيرة لنادي الأثرياء العالمي، وكيف أنه – الكاتب – طلب منه التبرع لبناء مركز للتخطيط الاستراتيجي التربوي لصالح اليونسكو وتحتضنه الدولة السعودية على أراضيها ويخدم دول المنطقة العربية وغيرها من دول العالم وبخاصة تلك التي هي في أمس الحاجة إلى الخدمات التعليمية والتربوية لكن هذا الملياردير الذي طالما تباهى بمشاريعه الخيرية، وهي مشاريع جلها على أي حال لأغراض مكاسب تجارية شخصية، كصرفه منحا دراسية لطلبة ليسوا عربا ولا مسلمين في بريطانيا وفرنسا والبرتغال بغرض تخفيف الضرائب على مشاريعه التجارية في هذه البلدان.. هذا الملياردير سرعان ما تملص من تنفيذ ما وعد به المندوب السعودي (كاتب المقال) بتبنيه للمشروع. ويختتم الديبان مقاله قائلا: وأنا واثق من أن كل من يقرأ المقال سيتذكر موقفا أو مواقف مع أصحاب المال، الذين لم يؤدوا واجب المال نحو مجتمعاتهم ليساهموا في تخفيف وطأة الفقر لدى الشعوب وتوالي الأزمات الاقتصادية والشح في المواد الغذائية والزيادة الجنونية في أسعار السلع الضرورية للحياة. ولنذكر مرة أخرى بأن كاتب المقال كان مندوبا حكوميا في تلك المنظمة يحظى بثقة حكومته وهو ميسور الحال وليس حاسدا أو يساري الهوى من ذوي الأفكار “الهدامة”.
 
صحيفة اخبار الخليج
15 ابريل 2008