خلال السنوات الماضية، حاضرت عدة مرات في مجالسٍ بالمحرق، وفي كل مرة أشارك فيها بندوة أو محاضرة هناك ألمس في هذه المدينة وأهلها روحاً نادرة، أزعم انك لا تجدها في مناطق البحرين الأخرى. هذا الشعور تعزز عندي في ندوة أقمتها مؤخرا في مجلس الدوي، بتنظيمٍ مشكورٍ من الأخوة الأفاضل المشرفين على هذا المجلس دارت حول القضية التي تشكل موضوع الساعة، ألا وهو الوحدة الوطنية في مواجهة مخاطر التشرذم الطائفي. ورغم أن منطلق هذه الندوة كان مؤتمر الحوار الوطني الذي نظمته لجنة التنسيق بين الجمعيات السياسية مؤخراً، ألا أن الحوار الذي دار في الندوة شمل قضايا عدة على صلة بهموم هذا الوطن، وقضايا التحول الديمقراطي ومعضلات الإصلاح. في المحرق، أكثر من سواها من مناطق البحرين، تجد هذا المزاج الوسطي المعتدل الذي تشّكل تاريخيا في مدينة منفتحة على البحر من جهاتها الأربع، تضم في ثناياها تكوينات مختلفة، ولكنها انصهرت في بوتقة واحدة، فلم يعد بوسعك أن تميز في طبيعة الانحدارات التي ينتمي إليها أهالي المدينة، لأنهم ببساطة يمكن أن يقدموا أنفسهم على أنهم محرقيين فحسب، ولا يعود بَعدها مُهماً التدقيق في هوية أخرى فارقةٍ غير هوية المحرق ذاتها، التي يفترض أن تشكل نموذجاً للهوية البحرينية العامة، لو أن الأمور في بلادنا تسير في مجراها الصحيح، وهذا ما لا يحدث على أرض الواقع للأسف. لا أريد هنا أن أقدم نشيداً رومانسياً في مديح المحرق، فهي الأخرى لم تنجُ مما أصاب المجتمع البحريني كله من تصدعات وتشوهات تحت تأثير التحولات السلبية الكثيرة، محلياً وإقليميا، وهو تصدع يمكن أن تلمسه في أحاديث الناس، ولكن يظل أن المحرق تقدم بيئة للحوار البناء وتبادل الرأي تجاه قضايا الوطن، من موقع الحرص على سماع الرأي والرأي الآخر بروح التفهم والاحترام. في التاريخ السياسي المعاصر للبحرين كانت المحرق بيئةً حاضنةً للفكر الوطني والديمقراطي بتكويناته القومية واليسارية في الفترة بين الخمسينات ومطالع الثمانينات، وقبل ذلك كانت المحرق المدينة التي استقبلت أفكار النهضة والانفتاح والإصلاح والتجديد الديني، وفي هذه المدينة عاش وعمل وكافح رموز هذه الأفكار الذين تركوا بصماتهم واضحة في تاريخ هذا الوطن، وانعطافاته نحو آفاق الحداثة والتجديد. هذا الأمر أعطى المدينة روحها الخاصة بها، وهي روحٌ قابلةٌ لأن تشتعل مجدداً، حين تطوف في أزقتها وأحيائها معالم الخطاب الوطني الذي افتقدته تحت ضغط التحولات المتناقضة التي شهدها مجتمعنا، والتي دفعت إلى صدارة المشهد بقوى الغلواء والتطرف والتعصب التي لا تلائم بيئة منفتحة كبيئة المحرق، ولا بيئة البحرين كلها بما عُرف عنها من تسامحٍ ووسطية واعتدال، وهي قيم نحن في أمس الحاجة للإعلاء منها لنعيد للوطن ما يفتقده اليوم وما هو في أمس الحاجة إليه.
صحيفة الايام
15 ابريل 2008