اختفت نعامة الإخوان في زمن انتفاضة الهيئة، ولكن كما يقال بدت بهذا القدر أو ذاك معروفة الأسماء والوجوه، وأغلبهم تمركزوا في مدينة المحرق، ولولا ذلك المنشور السيئ الصيت الذي أشار إليه عبدالرحمن الباكر في كتابه، لما عرفنا لا ظهر النعامة ولا ذيلها ولا حتى أقدامها، التي سنتابع خطواتها البطيئة، إذ بين الانتفاضتين ٦٥ – ٥٦ بالقياس الزمني ليست طويلة فهي تسع سنوات، فماذا عمل الإخوان في تلك السنوات العجاف من تاريخها؟ وكيف عكست وتفاعلت جماهير البحرين مع أحداث عربية بعد العدوان الثلاثي على مصر؟
فقد مرت على البحرين قضايا عربية لم يكن “الإخوان” حتى مشارك في الإدانة لتلك الأحداث أو مؤيد لبعضها أو مستنكر، فقد جاءت الانقلابات ضد الملكية في العراق عام ٨٥٩١ فلم نرَ منشوراً واحداً يؤيد تلك القضية وخلاص الشعب العراقي، ثم دخول العراق مطحنة بين قواها السياسية؛ فلم تعبر عن رأيها وموقفها في محنة الشعب وتنديدا للساحات الدموية؛ فاختار إخوان البحرين الصمت المطبق، فقد كانوا يرون الابتعاد عن المواقف الواضحة والشجاعة خارجيا يساعدهم على مغازلة ومهادنة الانجليز في الداخل؛ فالصراع الرئيسي في العراق كان مبدئيا ضد خروج الانجليز من البلاد وتحريرها من السيطرة.
تلك التوجهات المهادنة بدت واضحة في الداخل بهدف الاحتماء بظلال الأنظمة والابتعاد عن تعرضهم للضربات الأمنية الاستعمارية، وذلك ليس تعبيرا عن تكتيك مرحلي ولا نظرة بعيدة للمستقبل، وإنما قناع الإخوان في البحرين في تلك الحقبة عاش مخاوف الناصرية حتى في شوارع المحرق والمنامة، خوفا من غضب الناس عليهم، ما قد يزيد في عزلتهم ويسحب عنهم كل المساحات المتبقية من العمل الجماهيري، مفضلين الانكفاء الحذر في عمل حلقي ضيق النطاق. والأكثر من هذا وذاك أنهم مع فترة أعوام ٠٦٩١-٤٦٩١ أي قبل الانتفاضة لم نرهم يبدون أي تعبير مخالف إلى تظاهرات الوحدة، رغم أنها تعبير عن اتجاه يمثل تيارات قومية كإعلانات الوحدة الثنائية بين مصر وسوريا وإعلان الوحدة الثلاثية بين العراق وسوريا ومصر، وكأنما تنظيم الإخوان جثة ميتة في البحرين، في زمن كان فيه الشارع السياسي يغني فرحا ويعود للحزن عندما تصاب تلك الوحدة بالانكسار والتراجع.
فكيف يصمت تنظيم سياسي يدعي الحضور التاريخي طوال هذه الفترة، وفي ذات الوقت لا يكشف عن شجاعة معارضة عن أحداث لا يتفق معها ويراها مخالفة لتوجهاته، فهل تواصلت مهادنة الإخوان في البحرين مع النظام القائم، بهدف الابتعاد عن الضربات التي شهدها أمام عينه تحدث دائما للتنظيمات الوطنية الثلاثة، كالبعث وحركة القوميين العرب وجبهة التحرير، وإذا لم يكن مهادنا لسطوة الانجليز في زمن التحرر الوطني؛ فانه بالتأكيد ظل يشعر بسطوة الشارع السياسي ضده، والذي كانت روحه الناصرية عميقة، ولن يقبل أي اعتراض على الناصرية والاتجاهات القومية المؤيدة له، بل ولم يتحلَ الإخوان بشجاعة البعث الذين ابدوا نقدهم للتجربة الوحدوية وعبروا عن رأيهم في عبدالناصر فدفعوا ثمنا لغضب الشارع ضدهم، ولكنهم في النهاية قالوا كلمتهم التنظيمية. والغريب أن تجربة استقلال الجزائر وثورتها المجيدة ضد الاستعمار الفرنسي، لم تكن محصورة على تنظيم محدد، فقال الجميع كلمته وخرج يعلن تضامنه في الشارع، فلم نجد حلقة طلابية صغيرة من الإخوان تعبر عن موقفها وفرحتها بذلك الاستقلال، على الرغم من تنوع المواقف لتلك الثورة، التي بدت متحالفة ومدعومة من عبدالناصر. فهل بالإمكان تخيل تنظيم وطني لا يفصل بين الناصرية والثورة الجزائرية المناهضة للاستعمار.
يتماثل الموقف إزاء الثورة اليمنية لقيادة عبدالله السلال لانقلابه ضد الملكية، فلم يفرح إخوان البحرين في مجالسهم ورموزهم، حتى دون إصدار منشور واحد يقول كلمته، والقضية بدت واضحة في الابتعاد عن نقد الملكية كما هو الابتعاد عن نقد الانجليز، فمن الأفضل الابتعاد بجسم التنظيم الجنيني عن سجون السلطة. وبقدر ما نفهم التسع سنوات العجاف، ومحنة شعبنا في آخر انتفاضة له قبل الاستقلال الوطني، هب الشارع البحريني والعربي برمته لهزيمة حزيران عام ٧٦٩١، ولكنهم – الإخوان – لم يفصلوا بين العدو الإسرائيلي كقضية مصيرية وقومية، وعدائهم التاريخي الثابت لعبدالناصر، وهذا ما كان يميز الشيوعيين العرب والمصريين، فهم كانوا يفصلون بين المسألتين، وحتى حلفاء عبدالناصر من التنظيمات القومية مارسوا نقدهم علانية رغم حزن هزيمة حزيران، بينما إخوان البحرين وجدوا في هزيمة عبدالناصر لذة لعذاباتهم الحزبية، متناسين قدر وعذابات الأمة.
ونراهم اليوم كيف يزجون بالمسألة الفلسطينية من وجهة نظر دينية، أكثر من بعدها التاريخي العربي كصراع لحركة التحرر الوطني في المنطقة. وفي العام الثاني من ذكرى هزيمة حزيران (٨٦٩١) استعاد شعب البحرين حيويته ومعاناته، فخرج يعبر عن تلك الهزيمة، ويهتف في اتجاه النهوض، معتبرا تلك الهزيمة كبوة للفارس والأمة، وبالمثل صام صوما ابديا إخوان البحرين عن قول كلمتهم النقدية، سواء مع الهزيمة أو ضدها أو أي تعبير مؤيد أو يستنكر. ثم نفهم فرحهم العميق بعد سنوات على موت عبدالناصر في وقت كان الشارع حزينا، ولكنهم لم يقولوا كلمتهم في المسيرة العمالية عام ٢٧٩١ ببيان واحد ولا حتى كلمة فصل عن استعداد البحرين للاستفتاء بعروبة البحرين، ثم الاستعداد للمجلسين التشريعي والنيابي، فصمتوا كـ “أبو الهول”، إذ بدا الاستقلال الوطني وكأنه لا يعنيهم، وهذا ما لمسه الشارع السياسي في سنوات المجلس الوطني وفي تجربته الجريئة حتى آخر لحظة، ضد مرسوم أمن الدولة المكبل. فهل نحن بحاجة لاستعراض أكثر لذلك التنظيم، الذي لم يستنكر الوضع الاستبدادي والقمع، وإنما وجد فرصته كتنظيم انتهازي في التغلغل بين الناس بنهج العطاءات والأعمال الخيرية، وزار دول وأثرياء لكي ينسج اخطبوط تنظيمه في البحرين في زمن نهوض الموجة الإسلامية في أفغانستان، حيث فتحت لهم الأبواب على مصراعيها إلى أن حانت الفرصة الأخيرة في مجلسنا الوطني مع مشروع الإصلاح، الذي جاء به الملك.
وطالما لسنا هنا معنيين بالنسيج الداخلي لتنظيم الإخوان وغيره من تنظيمات متشددة، فان ما نراه اليوم ليس إلا نتاج لتراكم تاريخي، حيث دخل الإخوان في البحرين والخليج من بوابته الواسعة، فقد هرب إخوتهم من مصر وسوريا والأردن وفلسطين إلى أوروبا والخليج، فأسسوا كوادر وتنظيماً أكثر حبكة وتكتيكا من تنظيم البحرين التقليدي. فهل يحاول مجموعة الباحثين لي عنق التاريخ عنوة، لكي يضيفوا ولو مسحة تاريخية على وطنية تنظيم لم يفتح فمه، بكلمة مسموعة أو مقروءة عن موقف معاد للاستعمار، ومناشدا بالتحرر من كل أشكال القهر والتبعية. ذاكرتنا الوطنية واضحة كالشمس، فلماذا نضع أيدينا لإخفاء الحقيقة؟!
صحيفة الايام
15 ابريل 2008