ما الذي كان يجري في البحرين في سنوات التسعينات؟ ما سر الفوضى التي ضربت أطنابها طولاً وعرضاً في ذلك العقد؟ عندما استشعرت القوى الوطنية الديمقراطية في بداية التسعينات أن اختمار التململ الشعبي قد بلغ أوجه وقارب الانفجار، وبعد مشاورات بين «الداخل» و«الخارج» أطلقت من بيت عضو برلمان السبعينات، المناضل محمد جابر الصباح، فكرة العريضة النخبوية، تلتها العريضة الشعبية.كان الهدف تدارك الأوضاع قبل أن تفلت السيطرة من يد السلطة والمعارضة معاً.
غير أن عين السلطات لم تكن على هذا النوع من المعارضة (الديمقراطية)، بل على القوى التي لا تملك برنامجاً. أدارت السلطة ظهرها للعريضتين السلميتين وتعاملت مع مقدميها بالعين الحمراء. كان الحوار مع القوى الديمقراطية صعباً على السلطة لأنه سيضطرها في ظل متغيرات الأوضاع العالمية إلى الدخول في مفاوضات على برنامج سياسي تحويلي للخروج بالمجتمع من حالة الأزمة. كان الأسهل هو «الحوار» مع القوى السياسية – الطائفية كبديل للقوى الديمقراطية، وباستخدام القوة مع أطراف من هذه القوى «البديلة» والتقرب إلى أطراف أخرى. ولعلها وجدت في هذا الخيار حجة لتقول للعالم: «انظروا.. الإرهابيون يهددون الوضع، ونحن نريد تضامنكم». كانت هذه العلاقة بين السلطة و«المعارضة الجديدة» أشبه باللعب العنيف الذي لا يملك هدفاً محدداً. كل ما تريده السلطة هو الإبقاء على ما كان، وكل ما تريده «المعارضة الجديدة» هو التخلص مما كان، ولا يهم «كيف» و«إلى أين». فإلى أين وصلنا بالفعل؟
المؤرخ والفيلسوف المثالي الهولندي يوحنا هايزينغا (1872 – 1945) الذي كان يرى أساس الثقافة في «اللعب» كأعلى تجلّ للجوهر الإنساني قال مرة «إذا شجعت السلطات العنف، فالكلمة التالية ستكون للإرهابيين».
وهكذا كان. ولو سارت «اللعبة» بشكل آخر، لو دخل الحكم في تفاوض على أساس العريضة ومطالبها السلمية، ولو لم تجنح «المعارضة الجديدة» بالحركة الاحتجاجية بتسارع نحو العنف لكان مجتمعنا قد وفر تلك الكُلف الاجتماعية الباهظة للتغيرات السياسية التي حدثت في ما بعد.
وليس صحيحاً أبداً أن صدامات التسعينات عجلت بالإصلاحات، بل أخّرتها وأضعفتها منذ البدء. وصول جلالة الملك إلى الحكم بمشروعه الإصلاحي كان يعني فشل الطريق السابق الذي سلكه الحكم و«المعارضة الجديدة» معاً.
وجرى البحث عن طريق آخر للتخاطب عبر الحوار السلمي. ومن جديد جرى هذا الحوار بين الطرفين ذاتيهما اللذين اعتادا التخاطب عبر القوة. المعارضة التقليدية، أي القوى الوطنية الديمقراطية، تُركت جانباً للأسف تلملم جراحها بعد كل ما عانته لأكثر من ربع قرن من صنوف التنكيل. ومع كل ذلك بقيت المعارضة التقليدية بما تمتلكه من كوادر، وبحكم طبيعتها الديمقراطية وبرنامجية حركتها مهيأة أكثر للحديث عن رسم ملامح المرحلة المقبلة.
لم يكن المتفاوضون سياسيين محترفين. وكانت «اللعبة» أن أحدهما بلَّع الآخر لغماً تفجر فيما بعد في الموقف بشأن ازدواجية السلطة التشريعية فاهتزت الأرض تحت المشروع الإصلاحي. ورغم مآخذ الكثيرين – شتماً وتنظيراً أو انتظاراً – فلولا الموقف الصحيح الذي اتخذه المنبر الديمقراطي التقدمي في الوقت المناسب لكان الوضع قد ارتد إلى المربع الأول.
ظل المتحاوران الأساسيان في القضايا الكبيرة نفسهيما وبالكفاءة السياسية الضعيفة ذاتها. وكما في السابق ظل جوهر العلاقة هو العنف ولو أنه أخف وأكثر تغليفاً. أما الضحية الأساسية فكانت القوى الديمقراطية من جديد. فالقوانين المقيدة للحريات والعمل الجماهيري والإمكانات المادية للأحزاب السياسية أحدثت أثرها السلبي على هذه وليس القوى السياسية ذات الطابع الطائفي التي زادت في سنوات الإصلاح استقواء بالمؤسسات الدينية والخيرية باعتبارها قنوات واسعة للسيطرة على الجماهير ولضخ المال منها وإليها، خصوصاً بعد ارتفاع أسعار النفط، الذي بفضله استغنت القوى الطائفية – بمذهبيها – كما استغنت الدولة. يعني أن القوى الديمقراطية الحقيقية بقيت مهمشة، وحتى مغيبة في المساومات السياسية كما كان عليه الوضع قبل الإصلاح.
لكن الخطر الجدي لهذا الأمر هو أنه ينذر بعودة الوضع برمته إلى ما قبل الإصلاح.
وإذا كنا قد قلنا إن متحاوري الأمس لم يكونوا محترفين سياسيين، فهم اليوم لايزالون أنفسهم ولايزالون على ما هم عليه.
لكن ثمة فارقاً جوهرياً. خلال سنوات الإصلاح تطورت مؤسسات المجتمع المدني وقوي عودها بعض الشيء. وحتى وإن بقي كثير منها تحت تأثير القوى الطائفية، إلا أن طبيعة قواها الأساسية خلاف ذلك. ورغم المحاولات الجارية للاستئثار الطائفي بقيادات هذه القوى، وبالتالي إضعاف رسالتها، كما يخطط لانتخابات الاتحاد العمال البحرين المقبلة، إلا أن من الواضح أن حركة عمالية بقيادة طائفية يعني تراجع الحركة.
وهكذا، فرغم أن الشرخ الطائفي الذي يهدد الوحدة الوطنية يبدو واسعاً وخطيراً، إلا أن المجتمع المدني أصبح يمتلك إمكانات تطوره الذاتي مستقلاً عن القوى الطائفية وعن الدولة إلى حد ما. ولهذا، فإن التشريعات المحددة للحريات ومظاهر العنف في الشارع هما وجها ميدالية الفزع من إمكانات تطور دور المجتمع المدني. في الأسبوع الماضي بلغ العنف أوجه منذ بداية الإصلاحات حيث وصل درجة حرق إنسان حي. وقد ينذر ذلك بالمزيد لا لقوة بأس مرتكبي مثل هذه الأعمال الشنيعة، أو لاعتبارهم ممثلين لقوى اجتماعية واسعة، بل بالعكس تماماً، بسبب «الطريق المسدود» الذي انتهى إليه «برنامجهم»، والرفض الذي يعلنه أهالي المناطق الذين لا يعرفون من أجل ماذا «يضحون».
وللمرة الأولى تلاقي هذه الأفعال إدانة صارخة من قبل كل القوى السياسية والاجتماعية بلا استثناء. لكن هذه مجرد إمكانات موضوعية كامنة فقط لإنهاء مظاهر العنف. ولن تحصل هذه الإمكانات على فرص تحققها الحقيقية إلا بشرطين:
أولاً، أن تتخذ الدولة موقفاً أكثر وضوحاً من تطوير العملية الديمقراطية، وهذا مهم لأنها الطرف الأقوى في المعادلة. وثانياً، أن تتمكن المعارضة الوطنية الديمقراطية الأصيلة من لعب دورها الطبيعي والتاريخي، فلا ديمقراطية من دون ديمقراطيين حقيقيين.
صحيفة الوقت
14 ابريل 2008