قبل فترة وجيزة اتذكر بأني تناولت في هذه الزاوية قضية على درجة من الأهمية في الوضع الحالي الذي تعاني منه كل الحركات السياسية العربية من دون استثناء، لا الحركة السياسية البحرينية وحدها، ألا وهي مسألة الانفصام بين خطاب النخبة العقلاني، أو المستنير، وخطاب الشارع او ان جاز القول ثقافة العوام وأنصاف المثقفين السياسيين والذين لا يقرأون أو لا يبالون بثقافة النخبة السياسية وتحليلاتها الموضوعية العقلانية للواقع الملموس بكل تعقيداته وأزماته وسُبل الخروج منه، مهما كانت هذه السبل او الوسائل بطيئة او تستلزم الصبر والتروي. وكنت قد تناولت هذه المسألة في سياق تعليقي على مقال ضاف للمفكر المصري السيد ياسين نشِر في صحيفة “الاتحاد” الظبيانية.
اليوم تثبت أحداث العنف المتسارعة الجارية في عدد من البلدان العربية، ومنها مصر واليمن وبلادنا، والتي راح ضحيتها أبرياء صحة ما نذهب إليه، ذلك بأن هذه الأحداث المؤسفة ايا تكن مسبباتها الموضوعية وجذورها السياسية والاقتصادية إنْ تبرهن على شيء فإنما تبرهن على غياب الدور الفاعل والضابط المنظم للحركة السياسية الشعبية العربية التي تتسم في وضعها الراهن بالفوضى والشللية وأعمال العنف والإرهاب التي ترتكبها الجماعات والتكتلات الفردية المعزولة عن توجيه وضبط الحركة السياسية العقلانية المسؤولة. وغني عن القول انه على الرغم من ان كل القوى السياسية العربية الفاعلة على الساحات القطْرية تتحمل نصيباً من المسؤولية لهذا الغياب الذي يعكس ازماتها السياسية والحركية فإن جزءاً رئيسياً انما تتحمله قوى التيار الاكثر شعبية وعدداً ووزناً في المرحلة التاريخية الراهنة، وهو هنا بلا شك تيار الاسلام السياسي على اختلاف تلاوينه واوزان فئاته وفصائله في كل بلد عربي على حدة. وهذا ما أشار إليه ايضاً السيد ياسين في مقاله الذي تناولناه.
واذا كان يحق ويحلو لكل القوى السياسية العربية في جميع الاقطار العربية مطالبة حكوماتها بعدم الاقتصار على العلاج الأمني فقط لمواجهة واستئصال جذور وينابيع الارهاب والتطرف بل ان تكون هذه المعالجة ضمن خطين متوازيين في آن واحد، أي الحزم الأمني وعدم التهاون مع المخربين ومسوغي الاعمال الارهابية جنباً الى جنب مع علاج البيئة والتربة السياسية والاقتصادية والثقافية والتعليمية والدينية التي شكلت مناخاً خصباً لتفريخ مسوغي العنف والارهاب كأسلوب للاحتجاجات والثارات السياسية، فإن كل ذلك لا يعفي هذه القوى السياسية العربية، وعلى الاخص الدينية، من مسؤوليتها الكبيرة الوطنية والدينية لتكثيف حضورها في الشارع وتكثيف خطابها السياسي والديني التوعوي النابذ للإرهاب والقتل والتخريب مهما كانت المبررات والمسوغات. ان الاضطلاع العاجل بهذه المهمة الآنية ليس واجباً وطنياً واخلاقياً وانسانياً ودينياً فحسب، بل لأن المتضرر الأول من هذه الأعمال هي القوى السياسية ذاتها على اختلاف تياراتها الفكرية والسياسية، اذ تبرهن التجارب السياسية في كل دول العالم قاطبة بمختلف انظمتها الديمقراطية والاستبدادية ان هوامش حرية التعبير والحريات العامة وحقوق الانسان على تفاوت اتساعها هي التي تتأثر سلباً بأجواء الاحتقانات السياسية التي تتسبب بها أعمال العنف والارهاب والتخريب.
واذا كانت، كما اشرنا للتو، حتى الدول الغربية الديمقراطية العريقة كالولايات المتحدة وبريطانيا على سبيل المثال، غير مستثناة من تأثر هوامشها الاكثر اتساعاً في حرية التعبير والحريات العامة وحقوق الانسان خلال اجواء أعمال الارهاب والعنف، فما بالنا بالدول الحديثة التجارب الديمقراطية او بالدول الدكتاتورية والتي عادة ما يجد الكثير منها في مثل هذه الاجواء مبرراً للنكوص عن المكاسب والمنجزات الديمقراطية على محدوديتها؟ وفي الوضع الراهن الناشيء على مستوى جبهتنا الداخلية، حيث راح ضحية الحادث الاجرامي الأخير شاب من قوى الأمن، فلئن كان من حُسن الحظ، وكما هو متوقع، ان أدانت كل القوى السياسية والدينية، بلا استثناء، الجريمة وأجمعت على استنكارها ورفضها بلغة واضحة حازمة لا تقبل التأويل، فإن هذه القوى ذاتها مطالبة جميعها في مثل هذه الظروف الدقيقة بالتحلي بأكبر قدر ممكن من ضبط النفس والتصرف بحكمة وبمسؤولية وطنية عليا بعيداً عن اي تشنجات سياسية او فئوية قد تسهم في زيادة تعكير صفو هذه الجبهة وخلخلة تماسك نسيجها الوطني، ومن ثم ينبغي تكاتف الحكماء والعقلاء على كلا الجانبين للاضطلاع بهذه المهمة والتصدي لتطويق أي تداعيات لا داعي لها وغير مأمونة العواقب..
فالقضية الآن باتت في عهدة الأمن ومن ثم القضاء المخول وحده باصدار الحكم العادل وبحق الجناة. ولئن كنا نشيد بكل مواقف القوى والرموز السياسية والدينية التي نددت بحزم بالجريمة، فلعل من ابرز هذه المواقف المعلنة اللافتة حتى كتابة هذه السطور، والتي تستحق الاشادة لموقفها الوطني المبدئي الحازم في ادانة الحادث وتناول ابعاده الشاملة من مختلف الجوانب، خطبة فضيلة الشيخ صلاح الجودر في جامع طارق بن زياد في المحرق وبيان كل من “وعد” و”التقدمي” حول نفس الحادث. وحفظ الله مملكتنا العزيزة من كل مكروه.
صحيفة أخبار الخليج
14 ابريل 2008