عرفته زمن الغربة وعشت معه في بيت الاحزان 13 سنة ونصف في معاناة شديدة الايلام وبطعم مرير مع اخوة لي في الاسلام من خيرة شباب هذا الوطن امثال خليفة اللحدان وعلي الستراوي، وقد سبقني بعده عن الاهل والوطن قرابة عقد من الزمن. كان ذلك مطلع عام 1977عايشت فيها الفنان الكبير مجيد مرهون عن قرب فكان ذلك من حسن الطالع ان اعيش معه فأستشرف منه روح الامل واستلهم من عزيمته كثيرا من دروس الحياة وعبرها باعتباره مثالا حيا يعيش بيننا يختزن في ذاكرته كما هائلا من تجارب الحياة، تعلمت منه الكثير من صنوف الحكمة فهو – بحق – استاذنا جميعا، شجعني في الفن ووقف بجانبي وقت الشدة، وفي عشقي للخط العربي كان السبب لي في شحذ الهمة وقوة العزيمة. كل من رافق مجيد مرهون في رحلته المضنية هو شاهد عيان واكثر الناقلين عنه مصداقية في حديثهم عن واقع عاشه ابو رضا فخرج منه منتصرا بارادة وعزيمة قويتين يندر ان تجدهما في غيره ممن كابدوا هول الرزايا كما كابد، وصارعوا كما صارع من معاناة الغربة والحرمان وبذلك لا يحتاج استاذنا الكبير الى دليل اقوى من الحاضر الذي تلمسه القريبون منه والذين عاشوا معه عن قرب، ولا يحتاج الى من يلمع صورته فيكبره ويعلي من شأنه بكلمات الاطناب والمديح كما هو الحال لكثير من الساعين الى الشهرة، فالفنان مجيد شيد لنفسه مجدا، ورصد لشخصه تاريخها، يفاخر به ونفاخر به فأصبح اليوم احد قامات هذا الوطن الشامخة وكأنه احدى نخيله الباسقات يأبى لنفسه الا ان يعيش قوي الارادة حرا عزيزا يفضل الموت واقفا كجذوعها العطشى على رمال هذه الارض الطيبة. ذهب مجيد الى الزنزانة ومن داخلها صار مجد مجيد وخرج منها فنانا شهيرا ومؤلفا موسيقيا بعد ان كان في السابق عازفا يصدر بآلة السكسفون ألحانا يهلب بها اسماع الجماهير في مواكب عاشوراء الخالدة على امتداد شوارع المنامة وازقتها. خاض غمار السياسة وعرف دهاليزها واقتادته عمليته البطولية عام 1966 ضد رجال الاستعمار البريطاني الى السجن المؤبد عام 1969 ، وهناك حط رحاله طيلة اكثر من 22 سنة قضاها الموسيقار متحديا باصراره وعناده كل المعوقات، تمرد على القيد وعاش بالحزن والامل يرسم خيوط مجده، واستطاع بذاته ان يقود لنفسه معالم التغيير، ثم استطاع التحول من عالم السياسة الى عالم الفن كمحترف وما ادل على ذلك من نبوغه في الموسيقى كمبدع في البحث والاداء والتلحين. قال عن نفسه: “انا فنان قبل ان اكون سياسيا، ودعت السياسة الى الفن ولي الفخر ان اكون للفن ممتهنا، احببت الفن وولعت بالموسيقى، والفن اسمى من السياسة فليس من الضروري ان يكون السياسي فنانا ولكن من الممكن ان يكون الفنان سياسيا، والسياسة سلوك مكتسب والفن موهبة متأصلة. من الصعب ان احصر اعمال الفنان مجيد في هذه العجالة لكثرتها، ويمكن القول ان الفترة التي بدأت من 1969 وحتى الآن زاخرة بعطائه الفني، ففي هذه الفترة الف ولكن الكثير من المقطوعات والاغاني الموسيقية منها على سبيل المثال: “جزيرة الاحلام” و”ذكريات” و”اغنية الراحلين” و”حبيبتي” و”حرقة قلب” التي ألفها بعد وفاة امه وثلاث رباعيات وترية وصوناته للبيانو، وسيمفونيتين ثم كتابيه القيمين “الموسيقى الشعبية في الخليج العربي” و”الاسس المنهيجة لدروس نظرية الموسيقى” وتوج اعماله بسفره الفني الكبير “قاموس الموسيقى الحديث” المكون من تسعة اجزاء والذي وضع لبنته الاولى في السجن عام 1975 وانهى بناء خارجه عام 2008 وبانجاز هذا العمل الكبير يكون مجيد اول بحريني يحقق هذا الانجاز ليصبح المؤلف والمؤلف الاسطورة. مجيد الموهوب عازف السكسفون في جزيرة “جدا” بلحنه الحزين تشتاق لقربه لخفة روحه ودماثة اخلاقه وسعة ثقافته المعرفية، مدرسة في فن الموسيقى وقاموس من التجارب الحية يعيش الآن بين ظهراني مجتمعه الرسمي والشعبي غريبا يجهل تاريخه النضالي والفني الكثير ولم يعط بما يليق به من تكريم في الوقت الذي تعتز المجتعات المتحضرة بابنائها الموهوبين المبدعين فتكرمهم وتعلي من شأنهم. جاءني زائرا يتوكأ على عصاه وقد امضه المرض فنحل جسمه وخارت قواه يحمل معجمه الموسيقي في جزئه الاول وقد ذيله بعبارة “من القلب الى القلب” وزينه بتوقيعه الجميل. واعجب من ذلك اني لمست في رعشات روحه التحدي والصمود، رأيته واثق الخطى قوي النفس والارادة فسعدت بمقدمه الكريم، خجلت منه لتقديره الكبير لي وشعرت بالتقصير تجاهه حين فاجأني بالزيارة، معتذراً له بذلك لكثرة المشاغل وضيق الوقت. لكنّ الذي احزنني وزادني امتعاضا ما يعانيه هذا الفنان من حيف، ومن اغرب الامور انّ من يجهل مجيد مرهون المتصدرون عندنا لفكر السياسة والفن والثقافة الذين ينظّرون ويحلّلون بما يحلو ويطيب لهم متباهين للناس بمعارفهم في وقت يجهلون تاريخ غيرهم كمجيد مرهون ولانهم لا يقرأون تاريخ وطنهم لذلك يجهلون رجاله، فهذه الفئة من المجتمع أكثر الناس ظلما واجحافا من غيرهم لهذا الرجل، إذ لم يخطر على بالهم ان مجيد مرهون كتاب لم يُقرأ بعد! وإلا كيف طفا على السطح من لا عهد له بالتضحية ولا معرفة له بأدب السياسة والفكر والأدب وبقيت تضحيات مجيد مرهون وانجازاته حبيسة الادراج؟ ثم بأي شيء كرّموا مجيد؟. إلى متى نفيق من جهلنا لتاريخ ابناء الوطن البررة، المضحين باغلى الاثمان الذين امضوا زهرة شبابهم فاضاءوا مشعل الحرية لاجيال الوطن؟ وهل ننتظر حتى يترجّل الفارس فنتذكر بعده تاريخه المشرق لنتباكى عليه؟ لك الله يا مجيد من أهل هذا الزمان الرديء الجاحدين لمنجزاتك الجاهلين لقدرك!!.
صحيفة الايام
13 ابريل 2008