على الرغم مما اشتهرت به مؤسساتنا وحوزاتنا الإسلامية الكبرى المعروفة بعراقتها التاريخية في الفقه والتعليم الإسلامي، كالأزهر الشريف والنجف الأشرف على وجه الخصوص، من طغيان المدرسة المحافظة المتشددة دينيا في مناهجها الدراسية، فإنها لم تعدم نماذج عديدة منذ فجر النهضة العربية الحديثة استطاعت ان تختط لها خطا مستقلا منفتحا على علوم وفلسفة العصر، ومتفاعلا مع الثقافة العربية التنويرية المعاصرة، وهي نماذج عديدة يصعب حصرها في هذه العجالة. لكن أحسب أشهرها تاريخيا على مستوى الأزهر الشريف عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، وعلى مستوى النجف الأشرف الدكتور حسين مروة المعروف بمستواه الكبير كناقد أدبي وكباحث متميز في التراث العربي ــ الإسلامي، وهو صاحب السفر الخالد “النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية”، فضلا عن أسماء أزهرية ونجفية أخرى ذاع صيتها على الساحتين الثقافية والسياسية في عالمنا العربي. وتتفاوت هذه النماذج في مدى انفتاحها على الثقافة المعاصرة وتبنيها إياها طبقا لاستعداداتها، فهنالك من يزاوج بين ثقافته وخلفيته العلمية الدينية من جهة والثقافة الوطنية المعاصرة من جهة أخرى، وهنالك من يكاد يقطع كل ما له من علاقة وخلفية بالثقافة الفقهية السابقة ويقبل على الثقافة التنويرية أو “العلمانية” أو “الليبرالية”، وأحسب أن الفقيد المثقف البحريني الراحل الدكتور هلال الشايجي هو من النماذج العربية القليلة الذين تمكنوا من ان يوائموا بين ثقافتهم الجامعية الأزهرية وبين الثقافة المستنيرة المعاصرة، على نحو وسطي معتدل، فبقدر ما كان الشايجي أمينا لثقافته الجامعية الأزهرية، فقها ولغة، بقدر ما كان متحررا من الوقوع في أسر هذه الثقافة وجمودها وطابعها المتزمت المحافظ ومنفتحا “باعتدال” على الثقافة المعاصرة إنْ جاز القول. وهنا بالضبط تكمن خسارته كمثقف كبير للوطن وللساحتين الثقافية والأكاديمية، ليس كمثقف تنويري فحسب، بل كإعلامي فريد من نوعه خدم في الحقل الصحفي سنوات ثم اضطرته الظروف لترك العمل الصحفي والتفرغ لعمله الأصلي في الحقل الأكاديمي كأستاد جامعي في جامعة البحرين الأهلية التي كان هو من مؤسسيها وتولى عمادة كلية الآداب فيها، وكان قبل ذلك، استاذا جامعيا في الأدب بجامعة البحرين، ثم أصبح عميدا لكلية الآداب فيها، وهو الى جانب ذلك تولى مناصب ومسئوليات متعددة في سياق سيرته العملية منها عضويته في مجلس الشورى الأسبق قبل استئناف الحياة البرلمانية عام 2002م، وحاز لقب أفضل شخصية ثقافية بحرينية عام 1996م، وفقا لنتائج استفتاء أجرته مجلة “هنا البحرين” ذلك العام. كما كان عضوا في الهيئة الاستشارية لمجلس التعاون. بطبيعة الحال لم أعاصر أو أزامل الفقيد الراحل الشايجي في المهام التي كان يتولاها قبل وبعد رئاسته لتحرير أول جريدة يومية بحرينية “أخبار الخليج” خلال النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، وقد كان هو ثالث رئيس تحرير لهذه الصحيفة بعد رحيل مؤسسها الأستاذ محمود المردي عام 1979م، وبعد أن غادرها الأستاذ أحمد كمال عام 1995م. وكان الفقيد الشايجي قد كتب واحدة من أفضل الكتابات البحثية عن رائد الصحافة البحرينية الراحل محمود المردي ذاته في منتدى نظمته جمعية الآثار البحرينية احتفاء بهذه الشخصية الإعلامية الكبيرة وذلك في عام 1998م، ولكن أستطيع القول بناء على تجربة زمالتي له كرئيس تحرير لأخبار الخليج في سني التسعينيات من القرن الآفل ان الساحة الإعلامية، وعلى الأخص الصحفية، افتقدته مرتين، مرة عندما أجبرته الظروف على ترك العمل الصحفي عام 2000م لينتقل مرة أخرى الى العمل الأكاديمي، والمرة الثانية، وهي الأفدح، بعد ان انتقل الى جوار ربه على حين غرة ليترك وراءه فراغا يصعب سده. كان المرحوم الشايجي على درجة من دماثة الخلق والتواضع والتفاني في عمله الصحفي، وكان معروفا بين الجميع بتشجيعه للكفاءات والكوادر البحرينية الشابة في هذا الحقل الإعلامي، كما كان معروفا داخل العمل الصحفي باحترامه للتعددية السياسية والفكرية في أعمدة ومقالات الرأي حتى لو اختلفت أو تصادمت مع قناعاته ومعتقداته السياسية والفكرية، كما كان من رؤساء التحرير النادرين المهتمين بسلامة اللغة في الكتابة الصحفية، كما كان من رؤساء التحرير القليلين على مستوى الصحافتين المحلية والخليجية الذين لا يمنعون مقالا لكاتب إلا مضطرين جدا وفي أندر الأحوال وذلك بعد ان تستنفد كل إمكانيات نشره.. وغالبا ما يحرص على محاورة كاتب المقال أو العمود في الأسباب الموضوعية التي اضطرته ــ حسب رأيه ــ لمنع نشره. كما كان يحرص على عدم التدخل في فقرات مقال الكاتب، سواء بالحذف أو التعديل، من دون الرجوع إليه والتوافق معه على ذلك مقدما مهما كانت انشغالاته الإدارية والتحريرية المتعددة وذلك احتراما منه لشخصية ورأي صاحب المقال أو العمود. وصفوة القول ان الفقيد الراحل هلال الشايجي كان نسيج وحده في حقلي العمل الأكاديمي الجامعي والصحفي معا، ويشكل رحيله المفاجئ الفاجع وهو في عز عطائه في هذه السن غير المتقدمة (57 عاما) خسارة فادحة بهذين الحقلين العلميين المهمين. فرحم الله الشايجي الذي كان نموذجا فذا في المواءمة الخلاقة بين ثقافته الإسلامية الأزهرية الجامعية والثقافة الوطنية القومية الليبرالية.
صحيفة اخبار الخليج
13 ابريل 2008