مثل أشياء كثيرة في هذا الوطن، حيث تلتبس المفاهيم وتتداخل، وتروج سوق المزايدة في الشعارات والادعاءات، التبس أيضاً مفهوم النضال والتضحية بمفهوم التخريب والاعتداء على الممتلكات العامة، حتى بلغنا المرحلة التي أصبح زهق الأرواح بالنسبة للبعض عملا نضالياً. جريمة قتل الشرطي في كرزكان هي ثمرة من ثمرات هذا الالتباس، الذي أسس لثقافة خاطئة، لا بل ومدمرة، يجري ترويجها في صفوف الشباب المحبط والمتذمر، الذي تجير طاقاته في مجارٍ غير صحيحة، من خلال ترويج المقولات التي تقدس العنف، وترى في العمل الفوضوي بديلاً للتنظيم الذي يؤسس للعمل السياسي الحزبي الجدي، بما يتطلبه من بناء للمنظمات الجماهيرية والنقابية، ولمؤسسات المجتمع المدني، وإشاعة ثقافة التعددية والروح الوطنية المشتركة، والعمل التراكمي المدروس الذي لا يستعجل المراحل أو يحرقها. وما عانت منه الحركات الثورية والنضالية في بلدان كثيرة يتكرر لدينا للأسف وبحذافيره، حيث لا يؤدي هذا النهج الطفولي في العمل السياسي إلا إلى إلحاق أشد الأضرار بمجمل العملية السياسية في البلد، ويعرض ما تحقق من مقادير من الحريات السياسية والعامة إلى خطر الاحتواء والمصادرة، والنكوص عن الايجابيات التي بلغناها بعد نضال طويل وتضحيات مؤلمة قدمتها أجيال من البحرينيين، نساءً ورجالاً. وعلى خلفية هذا النهج تأخذ المزايدة السياسية شكل تخوين كل من يرفض أساليب الغوغاء والفوضى والتخريب، ويدعو إلى العمل السياسي المعارض والمسؤول، ويمارسه بجدية ومثابرة انطلاقاً من الخبرة السياسية المتراكمة في البلد، ومن توجهات العقلانية المبدئية التي تجمع بين مرونة الشكل وصلابة الجوهر، بديلاً للخطابة اللفظية التي تتزيا بالجمل الثورية، فيما هي في جوهرها لا تكشف إلا عن الخواء. ما حدث في كرزكان، وبصرف النظر عن أبعاده وعن من يقف وراءه، يكشف بوضوح عن المآلات التي يمكن أن تؤول إليها أمورنا بسبب هذا النهج، وبسبب تساهل القوى المختلفة في المجتمع وفي الحركة السياسية في اتخاذ موقف واضح من شأنه أن يفرق بين شروط العمل النضالي ومقتضياته وبين نهج التخريب والعنف واستسهال التطاول على الممتلكات العامة، وأخيراً زهق أرواح البشر في سلوكٍ منبوذ ترفضه كل نفسٍ سوية. سنظل نلح في مطالبتنا لأجهزة الدولة المختلفة، وفي مقدمتها السلطات الأمنية، أن تتعاطى ببصيرة وبُعد نظر مع تداعيات ما جرى، وأن يظل ماثلاً أمام الأعين أن سبيل معالجة تعقيدات وقضايا البلد هو بالاستمرار في عملية الإصلاح وتوسيع الحريات العامة وتطوير البنية الدستورية والتشريعية في هذا الاتجاه، والعمل على حشد رأي عام رافض لها، لأن مخاطرها تمس المجتمع قبل أن تمس الدولة وهيبتها.
صحيفة الايام
13 ابريل 2008