‘مع الأسف الشديد كنا نتحدث عن القاعدة، ولكن كان فينا من هم أسوأ من القاعدة، بل هم صنو القاعدة’.
هذا مقطع من حديث أذاعه التلفزيون العراقي لرئيس الوزراء نوري المالكي أثناء استقباله وجهاء وشيوخ العشائر في مدينة البصرة، إبان حرب الستة أيام الطاحنة بين الفريق الموالي لرئيس الحكومة المالكي، والذي ضم بعض قطاعات الجيش العراقي وقوات الشرطة العراقية وبعض الميليشيات المسلحة الموالية للمالكي وبين ميليشيا ما يسمى بجيش المهدي التابعة لما يسمى بالتيار الصدري الذي يقوده رجل الدين مقتدى الصدر.
هذا التشبيه الساطع والصارخ بين القاعدة، وجيش المهدي لا يمكن بأي حال من الأحوال لأي متابع للشأن العراقي أن يُعده كشفاً سياسياً جديداً يُنسب حق السبق فيه حصرياً لرئيس الحكومة العراقية. فهو لا يعدو أن يكون تقريراً لحالة قائمة ومثبتة برسم الأمر الواقع المعطوب بممارسات تلك الزمر التي اختطفت البصرة وافترست كافة مظاهر ومناحي الحياة اليومية فيها، وأحالت سكانها أسرى أهوائها ونمَّطت حياتهم بأساليبها الترهيبية وكأنها تحاول مجاراة ومنافسة أساليب حركة طالبان التي فرضتها على سائر مواطني البلاد الأفغانية إبان حكمها لأفغانستان أواخر تسعينات القرن الماضي ومطلع الألفية الثانية.
ولكن هل الأمر يقتصر على ميليشيا ‘جيش المهدي’؟ …
لو كان الأمر كذلك لربما كان وطؤه أخف على سكان البصرة وبقية مدن الجنوب العراقي وبعض أحياء العاصمة بغداد. فهنالك عشرات الميليشيات المسلحة التي لا تقل عن ميليشيا جيش المهدي انخراطاً في الأعمال التي صنفها مسئولو الحكومة العراقية المؤتلفين مع حزب الدعوة الذي يتزعمه رئيس الحكومة نوري المالكي، على أنها أعمال إجرامية تتراوح بين سرقة وتهريب النفط العراقي وأعمال القرصنة والاختطاف والابتزاز والقتل برسم فتاوى لمحاكم صورية ‘طيّارة’. وقد قيل إن في البصرة وحدها نحو من 28 ميليشياً مسلحة تتنازع السلطة والثروة والنفوذ مستخدمة كافة أشكال العنف والترهيب ضد السكان والسلطات المحلية الضعيفة وضد بعضها بعضاً بطبيعة الحال.
ولا ننسى أن رئيس الحكومة العراقية الحالية يدين بالفضل في وصوله إلى منصب رئاسة الحكومة، إلى الكتلة النيابية التابعة لرجل الدين مقتدى الصدر التي وقفت إلى جانبه في المساومات السياسية بين الكتل السياسية العراقية التي امتدت زهاء ستة أشهر. فإذا به اليوم ‘يكتشف’ أن الجناح العسكري لهذا التيار ‘الصدري’ هو أسوأ من القاعدة(!).. وأنه أشرف شخصياً على العملية العسكرية التي أُعطيت ‘كوداً’ هو ‘صولة الفرسان’، والتي راح ضحيتها أكثر من 700 قتيل وحوالي ألفي جريح، فضلاً عن التدمير الذي أصاب الممتلكات والبنية الأساسية، المهترئة أصلاً، للمدينة.
فماذا كانت النتيجة؟
لنعد أولاً لقراءة كلام رئيس الحكومة نوري المالكي الذي جرَّد تلك الحملة العسكرية (صولة الفرسان) وأخذ على عاتقه وضع حد لتمرد المدينة من الناحية الفعلية وخروجها على ‘طاعة’ السلطة المركزية في بغداد.
قال المالكي: ‘إن هذه الجماعات المسلحة التي تقاتل في البصرة تعمل وفقاً لأولويات سياسية خارجية، وأن الذي نشهده يومياً هو في الحقيقة إرادات سياسية بعضها محلي حتى تفشل التجربة السياسية في العراق، وإننا مصرون على مواجهة هذه العصابة في كل شبر من أرض العراق’. داعياً قائد عمليات بغداد والقادة الميدانيين ‘ لاتخاذ إجراءات للتعامل بحزم وقوة مع الجماعات المسلحة والخارجة على القانون والعصابات الإجرامية وعدم إجراء مفاوضات أو التهاون معها باعتبارها وجهاً آخر لتنظيم القاعدة الإرهابي’.
ولذلك يمكن الإجابة على السؤال السابق بالقول أنْ لا شيء تحقق عملياً.. بل إن العملية برمتها انتهت إلى فشل محقق خرجت منه ميليشيا ‘جيش المهدي’ المدعومة من إيران غير مهيضة الجناح إن لم تكن كاسبة معنوياً وتعبوياً من هذه المعركة الرئيسية. وهو الأمر الذي أكده بالوقائع مراسل ‘لوموند’ الفرنسية في عدد الصحيفة الصادر يوم الأربعاء 2 أبريل (نيسان) ,2008 حيث جاء في تقريره إن ميليشيا جيش المهدي لم يتم إخراجها ولو من حي واحد من أحياء البصرة التي تسيطر عليها.
بل إن الوضع سوف يغدو أكثر سوءاً بالنسبة لعموم سكان المدينة، وقس عليها بقية المناطق التي تواجه فيها الفريقان المتنازعان على السلطة والنفوذ السياسي والاقتصادي، بعد أن وقف الاثنان على حدود القوة والامتدادات الخارجية لعلاقات ونفوذ كل منهما.
فالذي حدث أن مجاميع من الشرطة والجيش العراقي ‘الجديد’ التي أرسلت للقضاء على التمرد والقرصنة، قد رفضت الأوامر بمقاتلة تلك الميليشيات والتحق كثير منهم بها عوضاً عن مقاتلتها.
كل ما حدث هو أن زعيمهم دعاهم للانسحاب من الشوارع فقط، أي الانزواء والاختباء بأسلحتهم للعودة ثانية وبسط سيطرتهم ثانية على المدينة.
ولذلك فإن تصريح رئيس الحكومة العراقية بعد انسحاب المسلحين من الشوارع بأوامر من قيادتهم، بأن الحكومة والقوات العراقية قد حققت أهدافها من العملية، هو قول مرسل ليس له أساس من الواقع. فهو محض ضرب من الأمنيات العزيزة في عراق الفوضى.
فهل كانت هذه الميليشيات وممارساتها الإجرامية من سرقة نفط وتهريبه، واختطاف وقتل، غائبة عن سمع وبصر ووعي أولئك الذين قبضوا بفضل ‘الفوضى الخلاقة’ الأمريكية على السلطة في بغداد؟
وهل المشكلة تقتصر وتنتهي عند ميليشيا هذا الحزب أو ذاك الزعيم، أم أن معظم الساسة العراقيين ‘الجدد’ تقريباً متورطون بهذه الدرجة أو تلك في شلال الدم العراقي المتدفق بغزارة منذ الاحتلال الأمريكي للعراق في التاسع من أبريل 2003؟
نعم كلهم، كل بقدر قسطه، في هذه الجريمة التي لم يسجل التاريخ العربي الحديث، حتى بمقاييس الحروب الأهلية، ومنها الحرب الأهلية اللبنانية والحرب الأهلية اليمنية والحرب الأهلية الصومالية، مثيلاً لها.
فما يقال عنه اليوم إنه ‘عراق جديد’ ليس سوى أكوام من الجماجم والأشلاء المتناثرة على امتداد التراب العراقي. فأين هي جهورية الخوف أو الرعب الصدَّامية من هذه الكارثة الإنسانية التي انتهى إليها العراقيون منذ احتلال بغداد في التاسع من أبريل( نيسان) 2003؟
وليت الأمر اقتصر على الإسفين الذي دقه المحتلون بين العراقيين بعد أن قاموا بهدم كافة أسس الدولة العراقية الحديثة وإنشاء كيانات سياسية على أسس مفاضلات طائفية، وإنما هو يتشعب ليشمل استحالة العراق ليس فقط إلى دولة متداعية الأركان (أركان الدولة الحديثة الأساسية: الأرض والشعب والمؤسسات) وإنما مستباحة السيادة، مرة أخرى ليس فقط من قبل الاحتلال وإنما أيضاً من قبل إيران وتركيا، إلى الدرجة التي وصل فيها الأمر لحد التقاء الأمريكيين والإيرانيين على الأرض العراقية للتفاوض والتباحث في شؤون العراق الأمنية والسياسية!!
حتى إن حرب الأيام الستة في البصرة بين الميليشيات وقوات الشرطة والجيش العراقية، كشفت بالدليل القاطع حجم التدخل والنفوذ الإيراني المتغلغل في كافة مناحي الحياة السياسية والأمنية والثقافية العراقية.
وهنا يُحار المرء ويتساءل عن ‘الحكمة’ العصية على الفهم المتمثلة في استمرار البلدان العربية إتباع سياسة ‘الانعزال البديع’ عن المسرح العراقي ريثما يصبح التدخل العربي فعالاً ومجدياً!
فهذا الانعزال أو الابتعاد والنأي عن العراق لم يُقرَّب من لحظة تلك السياسة ‘الانعزالية الإبداعية’، بقدر ما أفسح المجال لكل من هبّ ودبّ لأن يسرح ويمرح في ربوع العراق كيفما يشاء، حتى لم يعد يجافي حقيقة القول بأن العراق هو اليوم قيد الاختطاف من الأجانب.
فمتى يتحرك العرب لانتشاله من قبضتهم؟
الوطن 12 أبريل 2008