ينبغي أن نُعذر فيما ينتابنا من شعور بالغيظ والقلق والجزع من هذا الكلام الخطير الذي قيل في خصوص وقائع الفساد الأسطورية التي حدثت فــــــــي “ألبا”، أحد أعمدة اقتصادنا الوطني التي تؤرق الضمير الوطني وتستفزه إلى أبعد حدود الاستفزاز رغم أن في هذا الموضوع كلاماً كثيراً لم يقل..! ما قيل في ندوة عامة هو أخطر من ذلك الذي نشر قبل الندوة المنسوب إلى صحيفة امريكية.. وفي كلا الحالتين فإن ما ظهر على الملأ من مجموعة خطايا وأخطاء بالشركة لم يكن مفاجئاً إلا للذين يحسنون الظن، فما ظهر هو أعمق مما هو متداول، بل يبدو أنه الجزء الظاهر من جبل الثلج الذي يزخر بالغوامض من الألغاز والأسرار المحجوبة مفاتيحها التي يستعصي علينا فهمها وتفسيرها. لقد بات معلوماً من هذا الذي نشر حتى الآن على خلفية الدعوة التي اقامتهــــا “ألبا” في محكمة أمريكية على شركة الكوا – في خطوة لا بد أن نحتفي بها ونقدرها – إلى أي مدى ضاعت الحدود بين قدسية المال العام، وشهوات المنافع الخاصة، وإلى أي مدى ضربت بعرض الحائط هيبة القانون وكل القواعد الإدارية والمحاسبية والرقابية من خلال ما تم من تزوير في المعاملات، وإنشاء شركات وهمية، وتآمر مع بعض من كانوا يديرون دفة المسؤولية في “ألبا” الذين حصلوا على عمولات غير قانونية ورشى بلغت قيمتها ملياري دولار على مـدى 15 سنة. أما الذي قيل في الندوة العامة التي عقدت بالمنبر الديمقراطي الأسبوع الماضي فهو على قدر كبير من الأهمية والخطورة ويشكل شهادات إدانة صارخة لم تأتِ من فراغ، وللعلم فإن كل ما عرض بالندوة من أرقام، ومعلومات، ووثائق كفيل في دول أخرى يحاسب فيها المسؤولون عن أفعالهم وتجاوزاتهم ومآلات سياساتهم أن يقيم الدنيا ولا يقعدها، وتفتح ملفات وملفات، هذا للإحاطة والعلم فقط. يهمنا من هذا الذي أثير في الندوة الساخنة شقين، الأول ما طرحه رئيس نقابة عمال “ألبا” على البنعلي الذي بدا أنه عارف ببعض بواطن الأمور، حينما كشف وبلغة الأرقام التي أذهلت الجميع عن مسار الحسابات المصرفية في بنوك بعينها، كيف كان الفساد معشعشاً في كل مفاصل الشركة على مــــدى 15 عاماً وأكثر، وكيف أن ذلك كان حصاد مسلسل من التجاوزات والانحرافات والاختلالات التي يشترك فيها واحد أو أكثر من أهل القرار مع بعض أهل الإدارة، وكيف انشئوا شركات وهمية مهمتها تقديم عطاءات مرتفعة السعر، وكيف صار المال العام مالاً سائباً استطاع واحد أو أكثر ممن مسكوا دفة “ألبا” في فترة من الفترات ممن ليسوا أهلاً للثقة ولا للمسؤولية أن يمارس في شأنه ما يشاء دون حسيب أو رقيب، وكيف أثر ذلك على منظومة القيم الإدارية والإنتاجية والسلامة المهنية وظروف وأوضاع العاملين، والانتقاص من حقوقهم وتحسين ظروف معيشتهم وحتى على أجورهم، وكل ما ليس معقولاً صار معقولاً وعادياً فــي “ألبا” بفضل من لا نزال نعتقد بأنهم محصنون من المساءلة. أما الشق الثاني فهو الذي يتصل بما عرضه النائب السابق عبدالنبي سلمان من وقائع مثيرة كشف فيها إلى أي مدى بلغ الجو التآمري للسيطرة على مقـدرات “ألبا” حينما حاولت الشركة الأمريكية السيطرة على 26٪ من “ألبا”، وكيف قام من أسماهم بــ “قوى الفضيلة” في البرلمان في الفصل التشريعي الأول بتعطيل فتح ملف الفساد بالشركة، حينما أخضع هذا الملف لمساومات بعد تقرير ديوان الرقابة المالية لعام 2003 الذي حذر آنذاك من التلاعب في أسعار مادة الأمونيا. كل ما طرح في شأن ملف الفساد في “ألبا” مسكون بقدر كبير من الغموض، ومئات من علامات الاستفهام والتعجب، وأحسب أن من ضمن أخطر ما أثير في الندوة في إطار الشق الأول، أن الأموال التي نهبت عن طريق عمليات الرشوة والفساد بالشركة على مدى السنوات العشرين الماضية بلغـــــــــــــت ٨ مليارات دولار ونضع خطاً أحمر أو أكثر تحت هذا الرقم المذكور، مليارات دخلت في جيوب الذين ورطوا الشركة في عقود طويلة الأجل تمتد حتى عام 2019 بموجبها يباع سعر الطن من الألومينيوم بمبلغ 1600 دولار فيما سعر السوق يبلغ 2943 دولاراً.. !! نستشعر بغصة حين نتابع التفاصيل، وما عرض في الندوة، نُشر في هذه الجريدة وفي غيرها في ١ أبريل الجاري، وما نشر غيض من فيض، وما نشر خطير حقاً، وما لم ينشر أخطر، والجهات المعنية أو يفترض أنها معنية لم تصدر توضيحاً أو تصحيحاً أو تكذيباً لهذا الذي نشر لعله يخفف من وقع الصدمة علينا، ولكنها آثرت التزام الصمت وكأنها لم تقرأ ولم تسمع، أو إن الأمر لا يعنيها وليس في حسبانها أن يعنيها هذا الأمر. أياً تكن نتائج مجريات هذه القضية، وأياً كان مسار الجهد الذي يتبناه المنبر الديمقراطي لجعل هذه القضية محوراً لنشاطات وفعاليات مختلفة لجعلها قضية رأي عام بالتعاون مع العديد من الجمعيات والنقابات ومؤسسات المجتمع المدني، وأياً تكن جدية ومصداقية النواب هذه المرة الذين أعلنوا بأنهم سوف يحملون على عاتقهم مسؤولية طرح ملف فساد “ألبا” وجعل هذا الملف من أولويات العمل البرلماني والرقابي في الفترة المقبلة. أياً كانت نتائج وجدوى ذلك فإن المهم بالنسبة لنا كيفية التعاطي مع هذه الفضيحة، والأهم هو النتيجة التي ستثبت إلى أي مدى هي دوائر القرار على قناعة بأن هناك مشكلة، وإلى أي مدى هي جادة في الإصلاح ومحاربة الفساد والإفساد في “ألبا” بل حيثما وجد في أي موقع، المشكلة الحقيقية تكمن في الإجابة على هذا السؤال وإثبات مدى جديتنا في التعاطي مع ملف الفساد برمته الذي هو جزء أساسي من أي إصلاح حقيقي، ومن أي رؤية اقتصادية واعية، وهذه الجدية والمصداقية هما الأمر الذي بات ملحاً بل شديد الإلحاح.
صحيفة الأيام
11 أبريل 2008