ما من عين مياه طبيعية أطبقت شهرتها الآفاق في منطقة الخليج كمثل “عين عذاري” البحرينية، ولعل أبرز سبب لذيوع صيتها في بلدان المنطقة ارتباط اسمها بالمثل الشعبي الدارج “عذاري تسقي البعيد وتخلي القريب” والذي يُضرب عندما تُحجب الخيرات أو الحقوق عن أصحابها الأولى بالعطاء وتمنح للبعيدين الذين لا يستحقونها أو من هم آخر من يستحقها، وهو المثل الذي استمده الفلاحون من حال مسارات ترع العين حيث تروي الحقول البعيدة عن العين فيما الحقول المجاورة لها لا تستسقي منها بصورة مباشرة. عين عذاري ستشهد بعد أيام قليلة حدثاً “سعيداً” مهماً في تاريخ حياتها المديد، إذ سيتم افتتاح حديقة الألعاب الجديدة رسميا. ويُعد هذا الحدث هو الحدث الثاني السعيد في خلال أربع سنوات وذلك بعد افتتاح بركة السباحة التي شيدت تماما في موقع العين الأصلية التي جفت بعد إهمال “بشري” جسيم ومعروف، وتم تأجيل الافتتاح المحدد حينذاك بعدما لقي شاب يافع مصرعه غرقا فيها قبيل أن تفتتح رسميا. وبعد أسابيع قليلة من الافتتاح نشرت تقارير صحفية تثبت تعرض قاع البركة الجديدة للتصدعات والتشقق. ” عذاري” العين، وباعتبارها ارتبطت في المخيلة الشعبية بالعين القديمة التي سبحت في مياهها البلورية أجيال متعاقبة من البحرينيين على امتداد قرون، فقد انتصر منطق تعميم الخير، بجعل البركة حقا مشاعا للجميع من دون رسوم تجارية استثمارية، وإن كان مستوى خدماتها ورقابة صيانتها ليس كافيا. أما عذاري الحديقة الجديدة الزاخرة بآليات الألعاب الضخمة والتي احتلت أماكن كبيرة من المساحات الشاسعة المغطاة بالخضرة والأشجار الوارفة والنخيل الباسقة التي جرى تجريفها لصالح تلك الألعاب الجديدة..”عذاري” بالألعاب هذه لن تكون حقا مشاعا للجمهور بمختلف فئاته كعذاري العين، فعذاري الألعاب لن تكون أسعارها لعبة لكل من هب ودب، إذ إن سعر بطاقة الدخول خمسمائة فلس، فإذا ما كانت العائلة مكونة مثلا من 6 أفراد فعلى رب الأسرة أن يدفع ثلاثة دنانير ثمنا لست تذاكر، هذا بخلاف أسعار الألعاب التي تبدأ من 300 فلس وتصل إلى دينار واحد. ورحم الله زمان تلك الحديقة الروضة الغناء القديمة التي كان يقصدها في السبعينيات والثمانينيات آلاف المتنزهين من مختلف فئات الشعب وتعج بالزوار ليلا وفي عطلات نهاية الأسبوع، وحيث لا موطئ قدم حينذاك في موقف السيارات. فماذا عن عذاري القرية؟ القرية التي كانت تجاور العين تماماً والتي ارتبط اسمها باسم العين، كما ارتبطت حياة أهلها المعيشية بها زراعة ومياها وغسلا.. وذلك على مدى عقود وقرون؟ ليس سرا أن نكشف أن هذه القرية تعد واحدة من القرى التي هي في طي النسيان تماماً، فأهاليها بعد افتتاح الحديقة هم أجدر الناس بمثلهم الشعبي “عذاري تسقي البعيد وتخلي القريب” حيث ستكون أسعارها بعيدة المنال عن جيوبهم الخاوية كما هي بعيدة المنال عن السواد الأعظم من المعدمين وذوي الدخل المحدود.. وهذا المثل الشعبي الجديرة به القرية يذكرنا تماما بجنة دلمون “المفقودة” النائية الجديرة هي الأخرى باسمها حيث اسمها اسم على مسمى من حيث أسعارها التي تبدأ من سعر الدخول بـ 12 دينارا، على أن أهالي عذاري جديرون بمثلهم الشعبي منذ عقود طويلة كقرية منسية على الخريطة لكنها محسودة باسمها الرنان الدارج يوميا على ألسنة البحرينيين عند ذكر المثل أو لدى الإشارة إلى العين أو الحديقة. فعذاري القرية تكاد تكون هي القرية الوحيدة التي لم يطلها العمران الإسكاني حيث مازالت أكثر بيوتها إما قديمة وإما آيلة للسقوط، على الرغم من أن عدد بيوتها لا يصل إلى مائة بيت، وعلى الرغم من أن سكانها أقل من 500 نسمة. وإذا كانت الخدمات الإسكانية لم تف الحد الأدنى من طلبات أهالي القرية فإن خدمات المجاري هي الأخرى لم تستكمل، في حين أن معظم طرقها الداخلية لم ترصَف، كما أن أعمدة الإنارة تكاد تكون شبه معدومة. أما مسجدها فهو المسجد الوحيد الذي يستخدَم ليس للصلاة فقط بل لجميع المناسبات والأغراض الشعبية المتعددة، وبخاصة في ظل توقف بناء مأتمها الوحيد لغياب الدعم المالي الكافي. هذه القرية التي كانت طوال حقب من الزمان محتجبة عن الأنظار من جميع الجهات حيث تقبع في قلب الحقول الجميلة المجاورة لها والتي أصبحت أثرا بعد عين والتي كان لأهاليها الشأن الأعظم في ارتباطاتهم وخدماتهم للعين وسيبانها وتنظيفها.. هل يأمل أهاليها هؤلاء في شيء من الدولة برد الاعتبار لقريتهم التي طال نسيانها بعد ان يتم قص شريط افتتاح عذاري الألعاب الجديدة وتعم الفرحة الجميع؟!
صحيفة أخبار الخليج
10 ابريل 2008