المنشور

عن خراب البصرة

في زمنٍ آخر غير هذا الزمن الرديء، كان اسم مدينة البصرة حين يرد إلى الذهن تنبعث معه أجمل الصور عن مدينة جميلة ترتاحُ على شط العرب، وتطوقها غابات النخيل الكثيفة التي تطبع المدينة بروحٍ هي منذورة لها. البصرة في الذاكرة هي أيضا مدينة النحو العربية التي دخلت في سجال من أثرى السجالات مع مدرسة أخرى لا تبعد عنها الكثير هي مدينة الكوفة. والبصرة إلى ذلك، هي البقعة التي على أرضها نشأت الحركات الفكرية والفلسفية والسياسية في التاريخ العربي الإسلامي، التي أضفت على العراق وعلى الحضارة العربية الإسلامية ما عُرفت به من خصوبة في الفكر، ومن احتكامٍ إلى العقل وارتقاء به إلى المصاف العائد له.  ومن يستطع أن يكتب تاريخ الحداثة الشعرية العربية من دون أن يتوقف طويلاً أمام البصرة التي أعطتنا شعراء كباراً من وزن بدر شاكر السياب؟ الذي جعل من نهر صغير فيها اسمه “بويب” ذاكرة شعرية يعرفها القارئ العربي في أقصى الصعيد المصري أو في أبعد زنقة من زنقات المغرب الكبير.  يمكن أن نستطرد في سرد مزايا وشمائل البصرة، فلا يعود بالوسع قول شيء آخر لو أن البصرة ظلت هي البصرة. لكنها لم تعد كذلك، فهي مستباحة اليوم من “زعران” الميليشيات المذهبية التي تتزيا بالأسماء شتى، وتضفي على صراعها بالسلاح الوافد إليها عبر الحدود هالات زائفة من القداسة في تبرير وتسويق صراع رخيص على السلطة في المدينة، التي يحسب كل من يسيطر عليها انه سيسيطر على العراق كله. أو لعل المتصارعين صراعاً دامياً في البصرة، يريدون من “أسر” المدينة في أياديهم أن يجعلوا منها ورقة تفاوضٍ في الصراع العبثي الجاري في البلد كله بين ملوك للطوائف دفعت بهم المصادفات وسخريات القدر إلى صدارة المشهد السياسي. كان يمكن لبلاد ما بين النهرين، لا بل كان يجب، أن يصبح لها حاضر غير هذا الحاضر البائس الذي قاده إليها المحتلون الآتون من وراء المحيط ليطلقوا من القماقم جهلة المذاهب والطوائف يتحكمون في البلاد وفي رقاب العباد.  وكان يمكن للبصرة، رئة العراق على شط العرب، ومدينة السياب التي أعطتنا النحو والشعر وذاكرة النخيل، أن يصبح لها حاضر غير حاضر الصبية الموتورين الذين يعيثون خراباً في شوارع المدينة، مؤتمرين بأوامر رؤوس تلفها العمائم، السود تارة والبِيض تارة أخرى، مسكونة بشهوة السلطة.

صحيفة الأيام

8 ابريل 2008