تنظيم القاعدة فرع بلاد المغرب العربي يختطف في تونس سائحين من الرعايا الألمان ويقوم بتهريبهما عبر الحدود إلى قواعد له أقامها في المناطق الصحراوية الممتدة عبر الأراضي الجزائرية والمغربية والموريتانية. ومن غير المستبعد أن يكون التنظيم قد أسس له موطئ قدم في تشاد ومالي. لقد استعارت قيادة هذا التنظيم من النظام الرأسمالي المعاصر صيغة ‘الفرنتشايزينج’ ‘Franchising’ وتعني حق التمتع بالامتياز، فقامت ببيع امتياز ماركتها ‘المسجلة’ المتمثلة في الأساليب التي تتبعها لتحقيق أهدافها من إعداد وتجهيز وتفخيخ الانتحاريين وتحويلهم إلى قنابل بشرية قبل إرسالهم إلى الهدف (Target) وإصدار فتاوى القتل والتكفير وغيرها.. فقامت بموجب هذه الاستعارة المتذاكية بفتح فروع للتنظيم في المناطق التي تسنى لها تحقيق بعض الاختراقات وسط الحانقين المهمشين المتذمرين، في تسويق بضاعته وموديلها التدميري في ‘البناء’. فكان أن أعلن التنظيم عن فتح فرع (Franchise) له في السعودية تحت مسمى تنظيم القاعدة في بلاد الحرمين، وفرع آخر في بلدان الشمال الأفريقي العربي تحت مسمى تنظيم القاعدة فرع بلاد المغرب الإسلامي، وفرع ثالث في العراق تحت مسمى تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين.. وهكذا. وبالإضافة إلى هذه الفروع الرسمية، فإن التنظيم سعى ويسعى لتأسيس وتكريس عملياته في اليمن وفي بلاد الشام وفي مصر وفي الصومال وعدد من أصقاع القارة السوداء وفي أوروبا. ولولا الحملة العالمية المجردة ضد الإرهاب وضد تنظيم القاعدة وخلاياه المزروعة في غير بقعة من بقاع العالم منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر ,2001 لكان التنظيم قد نجح في توزيع وعرض فيلمه المرعب في كافة زوايا الكون الأربع بعد أن كان كشر عن أنيابه من خلال تنفيذ عمليات ‘نوعية’ في إسبانيا والسعودية ولندن والدار البيضاء والجزائر ومصر والأردن وتونس. إضافة إلى ميادين عملياته الأساسية: أفغانستان والعراق وباكستان. ومع أن قيادات وفقهاء التنظيم قد نجحوا في ‘نقل تقنية’ (Technology Transfer) القنابل البشرية الانتحارية المفخخة إلى كل من أفغانستان أولاً وباكستان تالياً والعمل بدأب لتهريبها إلى داخل مكونات الثقافة الحربية والإيديولوجية (الدينية) لمجتمعي هذين البلدين اللذين لم يعرفا قط مثل هذا النوع من عمليات زهق الأرواح حتى في أوج الجهاد الأفغاني ضد السوفييت، مع ذلك فإن التنظيم يعاني على ما يبدو، من انحسار واسع في الوجود والنفوذ، وهو ما استدعى القيام بعمليات الخطف وابتزاز الأموال في محاولة لإعادة الهيبة للتنظيم، وكذلك الظهور المتتالي لزعيم التنظيم عبر الأشرطة المهربة (مرتين خلال شهر مارس الماضي) لتوجيه رسائل استنهاض للمعنويات والهمم. ولأن البضاعة الممهورة بختم محاربة الكفار الصليبيين لم تعد تلقى نفس الرواج السابق، فقد كان لابد من تغيير التكتيك والعمل على استثمار كل سانحة تكون فيها العواطف مهيأة للتهييج. وهكذا جرى القفز بسرعة على حبال الرسوم الكرتونية التي أعادت جوقة المتطرفين والمتزمتين الدنمركيين نشرها والتي تنطوي على إساءة دنيئة ورخيصة للرسول الكريم.. ليتم في الإطلالة التالية العزف على الأوتار الحساسة للورقة الفلسطينية. ولكن يبدو أنه حتى هذا العزف على أكثر الأوراق شعبية في العالم العربي، لم ‘ينتج طحينا’، لأنه لم يُعرف عن العازف يوماً ميله وانحيازه للقضية الفلسطينية وممارسة هذا الميل والانحياز لها على أرض الواقع كما يفعل ‘بالصليبيين وبالكفار في بلاد المسلمين’. ولذلك بدت مضحكة لفتة زعيم التنظيم الأم إلى تحرير فلسطين عبر ‘الحرب المقدسة’ في العراق التي قتلت من العراقيين الأبرياء أضعاف أضعاف ما أصابت من الصليبيين ومن ضمنهم المسيحيين العراقيين الذين راحوا في جماعات يبحثون لهم عن أرض أخرى غير العراق ليستقروا فيها. وهذه ليست بدعة من الإبداع والإنتاج الحصري للتنظيم وإنما كان سبقه إليها كثيرون لعل آخرهم الرئيس العراقي الراحل صدام حسين الذي ادعى، وصدَّقه كثيرون أن تحرير القدس يمر عبر غزو دولة الكويت! وفي شأن مسألة الانحسار فإن الملاحظ أنه بإزاء انحسار نفوذ التنظيم شعبياً، فقد وجد له ملاذات لدى حاضنته الطبيعية التي انطلق منها وهي القبائل المناهضة بطبعها الانغلاقي المحافظ للحياة والمدنية بكل ألوانها. وهذه من المفارقات الهامة الجديرة بالدراسة والتمحيص من قبل أولئك المهتمين بدراسة ظاهرة صعود حركات الإسلام السياسي بفكرها العدمي وأساليبها العنيفة التدميرية الشاملة. فهي لم تنجح برغم كل الجهد المادي والبشري الذي استثمرته في خلق موطئ قدم لها بين سكان المدن، وإن استطاعت استقطاب مجموعات صغيرة سرعان ما تقع في قبضة أجهزة الأمن المتيقظة لعناصرها وتحركاتهم المثيرة للريبة والشك. بيد أن المفارقة المثيرة للتعجب وعلامات الاستفهام هي أن عوناً ومَدَداً قد وصل إلى القاعدة والتشكيلات الأخرى المتطرفة، من صوب أندادهم المتطرفين والمتعصبين في البلاد الغربية. فبعد إعادة نشر الرسوم المسيئة للنبي محمد صلوات الله وسلامه عليه على نطاق أوسع من ذي قبل، خرج علينا اليمين الهولندي بقصة فيلم ‘الفتنة’ المكرس للتعريض والتشهير بالإسلام. وبالتزامن معه تسابقت وسائل الإعلام الغربية على نقل قصة تحول شاب مصري من الإسلام إلى الديانة المسيحية وذلك برعاية وتعميد بابا الفاتيكان نفسه، وأخيراً وليس بآخر جاءوا بقصة عرض مسرحية مقتبسة من كتاب سلمان رشدي ‘آيات شيطانية’ في ألمانيا. فهل هي صدفة أن تتابع هذه الحوادث الواحدة تلو الأخرى من دون أن يكون بينهم أي رابط؟ لا ندري، ولكنه تداعي يثير التساؤل والاستغراب. والمضحك أن ينبري الوسط النخبوي السلطوي في الغرب للدفاع عن هذه الأفعال ‘المتصادفة’ باسم حرية التعبير مع أنهم يعلمون في قرارة أنفسهم أنها لا تعدو أن تكون استفزازات مبرمجة، ومتقصدة للإثارة واستثارة المشاعر. فاستدعاء فضيلة حرية التعبير هو تجنٍ على قيمة هذه المناقبية الإنسانية، وهو محض هراء. فأين هي حرية التعبير عندما يُقمع ويُلاحق جرمياً كل مَن تسوّل له نفسه من الغربيين بالتحدث عن حقيقة الهولوكوست؟.. مع الأخذ بعين الاعتبار هنا البون الشاسع جداً بين مساءلة التاريخ بشأن وقائع وملابسات الحرب العالمية الثانية ومن ضمنها جرائم النازي الألماني ضد اليهود وضد الشعوب التي كانت ضحية عدوانه، وبين الخوض بخفة واستفزاز صارخين في شأن نبي أمة الإسلام التي تشكل خُمس تعداد سكان العالم! هنالك شكوك تحوم بشأن الأهداف المتوخاة من هذا الهجوم والتعريض والتشنيع المنسق والمتزامن، بالإسلام والمسلمين من قبل بعض دوائر اليمين في الغرب، من حيث إنها موجهة على الأرجح باتجاه إعادة تغذية وتثوير حمى التطرف لدى حركات الإسلام السياسي الممتهنة للعنف العشوائي المدمر، وذلك لتأمين مصدر مستدام لانتظام الحراك الإيديولوجي التبريري للمنظومة الرأسمالية وتدفق حيويتها.
صحيفة الوطن
5 أبريل 2008