المنشور

الصين والغرب.. وقضية “التيبت”

كانت الصين الشعبية في عهد زعيمها الراحل ماوتسي تونج من الدول الاشتراكية الكبرى المتهمة بالإرهاب وتصدير الثورة من قبل الدول الغربية الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة. وقد عانت الصين طويلا بسبب العزلة وسياسات الحصار والحرب النفسية التي ظلت أمريكا وحلفاؤها تشنها عليها طوال ما يقارب أربعة عقود منذ ثورتها عام .1949 وقد قامت القيادة الجديدة التي جاءت بعد رحيل ماوتسي تونج ممثلة في تنج هسياوبنج بمراجعة جذرية للسياسات والشعارات المتطرفة والتي تتخذ منها القوى الغربية ذريعة لتأليب الرأي العام العالمي والمجتمع الدولي على الصين كبعبع شيوعي يهدد السلام العالمي، ولتبرير مواصلة هذه القوى وعلى رأسها الولايات المتحدة مختلف أشكال الحصار السياسي والاقتصادي المضروب على الصين. وبالتالي فقد أطلقت الصين مشروعا إصلاحيا منذ عام 1978 في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، ومن مرتكزات هذا الإصلاح على صعيد السياسة الخارجية التعايش السلمي بين الأنظمة الاجتماعية المختلفة ونبذ التدخل في الشئون الداخلية. أما على صعيد الإصلاح الاقتصادي فقد تم اعتماد سياسة “اقتصاد السوق” والتخفيف من الهيمنة المفرطة للدولة على الاقتصاد وتشجيع الاستثمارات الخاصة. وبفضل هذه السياسة الإصلاحية حققت الصين قفزات ملفتة في النمو الاقتصادي وبرزت كقطب دولي ند منافس للقوى الاقتصادية الكبرى في الأسواق الدولية. لكن بالرغم من هذه الوجهة الجديدة التي انتهجتها الصين منذ عام 1978 كدولة مسالمة تنتهج طريقها الخاص لم يترك الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة بكين وشأنها، فقد جرى تخفيف أساليب المجابهة الحادة التي كان يعتمدها الغرب بأساليب جديدة فمازالت الولايات المتحدة تثير زوابع بين الحين والآخر تجاه الصين متهمة إياها إما بتقليد بضائعها، وإما بانتهاكاتها لحقوق الإنسان ولا تفوت واشنطن أية فرصة تلوح أمامها للمضي في إشهار حربها النفسية ضد بكين، وهكذا كان أحد أهداف زيارة الرئيس بوش الأخيرة لعدد من البلدان الإفريقية تطويق ومحاصرة عقود ومشاريع الاستثمارات الصينية الناجحة مع هذه البلدان والتي تشكل منافسة للاحتكارات الأمريكية والغربية في الأسواق الإفريقية. وتكشف أحداث إقليم التيبت الأخيرة بجلاء مواقف الغرب والولايات المتحدة المنافقة وسياساتهما المزدوجة المتخبطة تجاه الصين، فقبل اندلاع أحداث التيبت بأيام قليلة كانت الولايات المتحدة قد تكرمت على الصين بحذفها من قائمة الدول الأكثر انتهاكا لحقوق الإنسان في تقريرها السنوي العتيد الخاص برصد أوضاع حقوق الإنسان في جميع بلدان العالم مع أن واشنطن هي من أكثر دول العالم انتهاكا لحقوق الإنسان، ومع أن أوضاع حقوق الإنسان في الصين هي بنفس مستوياتها السابقة سواء نظر إليها أنها أوضاع سلبية أم أوضاع إيجابية. وهذا بلا شك يكشف لنا جانبا من سياسات التخبط التي تتبعها واشنطن تجاه بكين. ومثال آخر على ازدواجية السياسات الأمريكية المراوغة تجاه الصين نجده في الموقف من جزيرة تايوان، ففي الوقت الذي ما برحت فيه الولايات المتحدة تؤكد رفضها لفصل تايوان عن الصين، بما في ذلك رفضها لأي استفتاء يهدف إلى انضمامها إلى الأمم المتحدة كدولة مستقلة، فإن لجنة الشئون الخارجية بمجلس النواب لا تجد غضاضة من إعلان دعم الولايات المتحدة لإجراء “انتخابات ديمقراطية” لتقرير مصير تايوان مما أثار حفيظة بكين باعتبار ان هذا القرار يتعارض مع مبدأ “صين واحدة” كما يتعارض مع قبول الصين في عام 1971 في الأمم المتحدة كدولة واحدة تمثل كل الصينيين. وفي الوقت الذي أعلنت فيه واشنطن في فبراير الماضي شطب الصين من قائمتها السنوية الخاصة بحقوق الإنسان في العالم فإنها لا تتورع عن دس أنفها في أحداث التيبت وشن حرب نفسية جديدة ضد بكين متهمة إياها بسلب حقوق أهالي هذا الإقليم القومية وانتهاك حقوقهم الإنسانية، في حين تتجاهل كليا أعمال التخريب والتدمير والحرق الواسعة التي مارسها المحتجون في منطقة التيبت وهي الأعمال التي أدانها زعيم المعارضة التيبتية الدالاي لاما نفسه وإن على استحياء وهو الزعيم الذي يحظى بتشجيع ودعم الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة. ومع أن الغرب وأمريكا درجوا على إدانة أشكال العصيان والاحتجاجات النضالية، وعلى الأخص في البلدان الواقعة تحت الاحتلال كفلسطين، ووصفها بـ “الإرهابية”، إلا أن هذا الغرب لم يكتف بتأجيج الوضع الملتهب في التيبت فحسب بل التزم الصمت المريب تماما إزاء تلك الأعمال التخريبية الواسعة النطاق ضد الإقليم والتي كلفت الصين خسائر باهظة كبيرة ستعود بالوبال على أهالي التيبت أولا قبل غيرهم من الصينيين. ولعل توقيت اشتعال أحداث التيبت مع اقتراب موعد أولمبياد بكين المقرر في صيف هذا العام يلقي بظلال من الريبة على مدى عفوية هذه الأحداث. إذ ان الشكوك تحوم بقوة حول وجود أيد غربية خفية في تأجيج الوضع وصب الزيت على النيران، فمن المعروف أن النجاح المتوقع لأولمبياد بكين سيعني نجاحا كبيرا للدولة الصينية وسيفتح آفاقا واعدة لتنشيط سياحتها وأسواقها الداخلية وهذا ما يثير حفيظة وحنق الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة، علما بأن معظم الدول الغربية أعلنت التزامها بالمشاركة في الأولمبياد احتراما لمبدأ إبعاد السياسة عن الرياضة.

صحيفة اخبار الخليج
2 ابريل 2008