يجب علينا على الدوام أن ندرك تمام الإدراك أن كل واحد مسؤول حيال هذا المناخ التعبوي المليء بقدر كبير من التجاذبات والاستقطابات والممارسات المجهزة بحساسية استقبال كل ما يتسم بنفس طائفي، وينمي الذهنية الطائفية. هناك من هو مسؤول بالممارسة، وهنالك المسؤول بالفكر المتعصب، والمسؤول بالغطاء، والمسؤول بالقرار وصيانة الوطن، والمسؤول باختلاق مؤامرات، ومتآمرون وتبادل الاتهامات، والمسؤول بالوكالة، والمسؤول بالإيحاء، والمسؤول بالمجاراة، والمسؤول بالصمت. إذن الإدانة لا تستثني أحداً.. وأحسب أن العلة فينا جميعاً، بل إنها تزداد تفاقماً كلما ألقينا تبعاتها على الآخر، وانخرطنا في تكريس الفوارق والتناقضات والتوترات، وشرعنا الأبواب لكل ما قد يسقطنا في فخ الحسابات الخاطئة التي تؤدي حتماً إلى نتائج وقراءات خاطئة حصادها بالضرورة نتائج كارثية. إنه موضوع على قدر من الجد يستحيل تجاهله أو التقليل من خطورته؛ فتجاهل الواقع هو هروب من المعالجة، والتغاضي عن الخطورة والخطأ جريمة بحق الوطن، والتلفع بالصمت والإنكار مصيبة بحق الناس، لذا سيبقى هذا الموضوع تحدياً للمجتمع المدني وقواه الفاعلة، ومن هذه الزاوية يجب على القائمين والمشاركين في مؤتمر الحوار الوطني الذي ينعقد غداً – السبت – أن يثبتوا بأنهم على وعي بكل ذلك، وأن يؤكدوا أن هذا الحوار هو ثمرة جهد وفعل وطني نوعي صادق مدرك لدقة المرحلة التي نمر بها، ولخطورة تبعات الجنوح بالسياسة إلى الطائفية، ما جعل واقعنا مليئاً بشطحات وتشنجات وضغوطات وصنوف التعبئة التي تمس في الصميم الثوابت الوطنية التي يتبناها المؤتمر شعاراً وجعلها فوق الانتماءات الطائفية التي لم يبالغ المفكر وعالم الدين العراقي إياد جمال الدين في ندوته بمعرض الكتاب قبل أيام حينما وصفها بسلاح دمار شامل، ومرة أخرى بأنها لا تقل عن النازية. نعلم جيداً، أن البعض حتى وإن جاء تحت دعوى الحوار، بمقدوره أن يحمل معاول هدم أي حوار والتشويش عليه أو تفريغه من مضمونه، وأن يخضع الحوار لتأثيرات اعوجاج السياسة أو لأجندات سياسية معينة وللحسابات والقراءات الخاطئة، ولطالما انتابنا حزن عميق غداة بعض طاولات الحوار أو الحلقات الحوارية أو المنتديات العامة التي استهدفت حوارات حول بعض قضايا الشأن العام، حيث بلغ الكلام فيها أقصى حدته وغليانه وتطرفه من قبل من تعودوا زراعة الشوك وتوتير الأجواء، وإيقاع الشارع البحريني في بلبلة هو في غنى عنها، في ترجمة لما عانت منه تلك الجهود من “آفات حوارية”، حينما أريد من هذه الحوارات أن تكون أداة ابتزاز وضغط وتحفظ على هذا المفصل أو ذاك، والمتتبع لها تعتريه الدهشة ويأخذه العجب عندما يتوقف عند التفاصيل والجزئيات، خاصة حينما يجد من طالب بالحوار مع الآخر هو الذي سعى لمصادرة الآراء التي تتعارض معه. ومن هنا، فإن مؤتمر الحوار الوطني غداً يجب ألا يكون مجرد جلسات وورش عمل عقيمة عبثية تغرق في ثرثرة السجال وديماغوجية الطرح والتكرار والشعارات الجوفاء، حتى لا تكون النتيجة قشاً فارغاً بلا محصول. الجمعيات السياسية الثلاث عشرة المنظمة للمؤتمر، وقوى المجتمع المدني المشاركة فيه، بافتراض النيات الطيبة للجميع التي للأسف لا تؤدي دوماً إلى الهدف المنشود، هذه الجمعيات ليس عليها أن تلقي خطباً منبرية تطرب الأسماع قد تتوافق مع هوانا أو تستثير حماسنا، أو تتبنى مواقف تتسم بالبهرجة الإعلامية أو رفع العتب وتسجيل حضور، ولكنها لا تشكل خطوة واحدة فاعلة توقف هذه الاستمرارية في إحداث شرخ في وحدتنا الوطنية بما يتجاوز حدود الاحتمال، وإنما على هذه الجمعيات مهما اختلفت في الرؤى والأفكار والتوجهات والمواقف والأجندات حيال الملفات السياسية المهمة، أن تفهم وتستوعب أن العمل الديمقراطي الحقيقي لا يعني مطلقاً اتفاق الجمعيات والقوى على كل الموضوعات والملفات المطروحة والتي تشغل بال الجميع، ولكن هذا لا يعني قبول مواقف إقصاء الآخر، أو تبني أجندات طائفية أو حسابات مصلحية آنية أو الارتهان لهذا الطرف أو ذاك، أو إسقاط نقاط التلاقي والقواسم المشتركة، وخلق جوٍ مليء بالمنغصات الفئوية والطائفية التي تستهلك طاقة اندفاع مجتمعنا. وإذا كان من المزعج حقاً هو أن السياسة التي ينتهجها من يفترض أنهم أرباب السياسة، بالأخص من مسؤولين ونواب وبعض من تصدروا واجهات تحت مظلة الشأن العام ما زالوا يريدون لنا أن ننساق إلى أجندات سياسية معينة، ومناكفات غير محسوبة النتائج والعواقب، ويهرولون وللأسف في اتجاه يدفع إلى انحسار الانتماء الوطني ويبرز الانتماءات الطائفية والمذهبية والقبلية وحتى المناطقية؛ فإنه سيكون باعثاً على إزعاج أكبر، وقلق أكبر إذا لم يستطع مؤتمر الحوار أن يشكل إضافة نوعية تساهم في تبني جهد وطني صادق ومؤثر في مواجهة آفة الطائفية بكافة وجوهها في السياسة، وفي المجتمع، وفي وعي الناس، وإلا سنخرج بلا نتيجة، وسنجد كما قلنا حصاد المؤتمر قشاً فارغاً بلا محصول، ولا ريب أننا سنجد أنفسنا بعد ذلك أمام أكوام قش بمواجهة العواصف. الجميع غداً أمام امتحان عليهم أن يثبتوا فيه بأنهم متمسكون فعلاً بالثوابت الوطنية، وأنها فعلاً فوق الانتماءات الطائفية بعيداً عن اعوجاج السياسة ورخص الشعارات المبتذلة.
صحيفة الأيام
28 مارس 2008