فتى الكويت الذي ترجل عن حصانه الجموح، وأي فتى هذا الذي لم تتعبه الحياة؟! فقد اعتاد التنقيب في كل شيء، وما استراح إلا عندما جاءت الرحلة الأخيرة، وكان طاغور شاعرنا العظيم يدعو الموت برحلتنا الأخيرة، فيطرق بابك صبحاً باكراً أو مساء متأخراً، ويقول لك هأنذا جئت فهل أنت مستعد للرحيل، وكم رغبنا في تأجيلها ولكنه لا يقبل التأجيل، فيأخذنا معه في رحلته السرمدية. فتى الكويت أنت وأي فتى “أبو قتيبة”،فكم قيلت فيك نعوت تشابهت وتنوعت واختلفت، لكنها أبت أن تسلبك أهم نعوتها العظيمة عندما يوصف الإنسان بإنسانيته والوطني بوطنيته. قيل فيك وعنك بأنك قومي فلم يخطئوا، فقد قاتلت من أجل استقلال بلدك وأنت فتى في مدارس الثانوية، وبُحّ صوتك هتافاً لقضايا من المحيط إلى الخليج، وعندما قيل فيك إنك ماركسي فلم يبتعدوا أيضاً، ففي زمن النكبة والانحسار والبحث عن مأزقنا كان عليك أن تفتش مع الآخرين عن خيارات أخرى تمنحك روعة التحرير، ومثل كل فتيان العرب في عام ٧٦٩١ أعجبتهم أفكار جيفارية وماوية وثورية هناك في كوبا وفيتنام وهنا في خليجنا الثائر، فتخطيت قطريتك في منظور الصراع، وكأنك تستعيد هتافاً للقوميين العرب في داخلك، تهاتفه فيهاتفك، كصوفي متربع عرش الصحراء، فتتذكر تظاهرات جابت كل شوارع وطننا العربي الكبير بحثاً عن الحلم، فعاشت صرخة الشارع فيك حين رددت يومها “من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر لبيك عبدالناصر”، فهل نلوم الفتى وهو يبحث عن مخارج لأسئلته المتفجرة وتقلبات الوقت والمحنة؟ فكان جيفارا يحوم في عقلك وكل معنى الرومانسية الثورية، التي تعيش معنا حتى الشيخوخة. فالرومانسية حلم جميل يعيشها الإنسان الحر يتعشقها في الموسيقى والأدب، وهي روعة فنية للحياة من جانبها السياسي، فما كان منك إلا أن تذهب إلى ظفار كما ذهب روجيه دوبريه إلى بوليفيا، وكان قدركما السقوط في قبضة الأمن، ولولا رعاية الكويت حكومة وشعباً بحقوق أبنائه لما عدت، فربما كان مصيرك قلاعاً وظلمات وقسوة متناهية. ترى هل كان الفتى هادئاً في رحلته الكونية تلك، فلم تشفه البندقية ولا مجاهل الغابات، مثلما لم توقفه مرافئ الرحيل في مجاهل المعرفة ومحيطاتها،فحمل أمتعته على ظهره نحو قلعة جديدة محصنة، ففيها قرر استلهام معرفته، فحطّ رحاله في هارفارد وفي قلب الإمبريالية الأميركية. لكم كانت المفارقة قاسية ففي بلد ساءت سمعته في العالم وهو يُغرق فيتنام بقنابل حارقة، كان هو البلد نفسه الذي يقود عصياناً مدنياً ضد التمييز والحرب،فما كان عليك إلا أن تتعلم من قاعه جذور مكوناته المعقدة، ومن وصفوك بأنك ماركسي ذات يوم لم يخطئوا ويبخسوا حقك، ومن نعتوك بالليبرالي فهم لا يضيفون لك إلا صفة تستحقها، فهناك في الليبرالية تيارات عدة نبيلة قاتلت ضد العبودية، وضد عبودية الاسترقاق الحديث فيمصانع الغرب، هذا الليبرالي واصل قتاله الجديد إيماناً بالمتغيرات والممكن، بأن خليجنا بحاجة إلى مرتكزات مهمة وحيوية كحرية الإنسان والديموقراطية والتنمية المستدامة، في ظروف وشروط الاستقرار الدائم وتقاسم السلطة والدفاع المستميت عن حقوق الإنسان. فكان للدكتور الربعي برنامجه الخاص الذي كثيراً ما اختلف وتراجع وتحاور حوله، فكان مصدراً للأسئلة الحائرة والمربكة والمثيرة للجدل، وفي زمن الحراكية المشوّهة لحرية الإنسان بكل عمقها ودلالاتها والاضطرابات الفكرية والسياسية في تاريخ عربي متقلب، كان على الربعي المثقف ألايستكين للعواصف، فكان يبحر في أسئلة الفكر والفلسفة والسياسة، فلعلّها تجد له إجابات شافية. وبقدر ما علّمته تجربة ظفار القصيرة وتجربة هارفارد الغزيرة من معنى ودلالات، فإنه لم يكن مسحوراً بوجه الغرب وليبراليته من معناها المشوه، فمن منا لم تعد تهمه الحرية، حرية الإنسان، ومن منا لم يعد يستوعب أهمية حقوق الإنسان والديموقراطية كخيار تاريخي لبلدان نامية تؤسس لمشروعها التنويري والحداثي بعيداً عن المزايدة وشعارات سرابية. من أجل ذلك قاتل الربعي الذي كان يمر كالبرق سريعاً في قبرص ويختفي كالريح، فلا تسمع عنه إلا أنه هناك بصوت عميق وقوي ومقاتل من أجل الحرية، في أروقة الجامعة وفي قبة البرلمان وفي مكتب الوزارة وفي صولجان شوارع الانتخابات الساخنة. لقد صدق إنجلز عندما قال على قبر ماركس كلمته الوداعية الشهيرة: “أي مشعل للفكر انطفأ، أي قلب عن الخفقان توقف”، ومن حقك أن تحمل تلك الشهادة، فقد كنت طالباً مقاتلا للفكر قبل أن تكون معلماً له بقلبك النابض. خسرتك ساحتنا في معاركها من أجل التنوير والحرية، وقد تركت لنا مشعلك الذي لا ينطفئ.
صحيفة الايام
1 ابريل 2008