المنشور

فتى الكويت من ظفار إلى هارفارد

فتى الكويت الذي‮ ‬ترجل عن حصانه الجموح،‮ ‬وأي‮ ‬فتى هذا الذي‮ ‬لم تتعبه الحياة؟‮! ‬فقد اعتاد التنقيب في‮ ‬كل شيء،‮ ‬وما استراح إلا عندما جاءت الرحلة الأخيرة،‮ ‬وكان طاغور شاعرنا العظيم‮ ‬يدعو الموت برحلتنا الأخيرة،‮ ‬فيطرق بابك صبحاً‮ ‬باكراً‮ ‬أو مساء متأخراً،‮ ‬ويقول لك هأنذا جئت فهل أنت مستعد للرحيل،‮ ‬وكم رغبنا في‮ ‬تأجيلها ولكنه لا‮ ‬يقبل التأجيل،‮ ‬فيأخذنا معه في‮ ‬رحلته السرمدية‮. ‬فتى الكويت أنت وأي‮ ‬فتى‮ “أبو قتيبة‮”‬،‮‬فكم قيلت فيك نعوت تشابهت وتنوعت واختلفت،‮ ‬لكنها أبت أن تسلبك أهم نعوتها العظيمة عندما‮ ‬يوصف الإنسان بإنسانيته والوطني‮ ‬بوطنيته‮. ‬قيل فيك وعنك بأنك قومي‮ ‬فلم‮ ‬يخطئوا،‮ ‬فقد قاتلت من أجل استقلال بلدك وأنت فتى في‮ ‬مدارس الثانوية،‮ ‬وبُحّ‮ ‬صوتك هتافاً‮ ‬لقضايا من المحيط إلى الخليج،‮ ‬وعندما قيل فيك إنك ماركسي‮ ‬فلم‮ ‬يبتعدوا أيضاً،‮ ‬ففي‮ ‬زمن النكبة والانحسار والبحث عن مأزقنا كان عليك أن تفتش مع الآخرين عن خيارات أخرى تمنحك روعة التحرير،‮ ‬ومثل كل فتيان العرب في‮ ‬عام ‮٧٦٩١ ‬أعجبتهم أفكار جيفارية وماوية وثورية هناك في‮ ‬كوبا وفيتنام وهنا في‮ ‬خليجنا الثائر،‮ ‬فتخطيت قطريتك في‮ ‬منظور الصراع،‮ ‬وكأنك تستعيد هتافاً‮ ‬للقوميين العرب في‮ ‬داخلك،‮ ‬تهاتفه فيهاتفك،‮ ‬كصوفي‮ ‬متربع عرش الصحراء،‮ ‬فتتذكر تظاهرات جابت كل شوارع وطننا العربي‮ ‬الكبير بحثاً‮ ‬عن الحلم،‮ ‬فعاشت صرخة الشارع فيك حين رددت‮ ‬يومها‮ “‬من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر لبيك عبدالناصر‮”‬،‮ ‬فهل نلوم الفتى وهو‮ ‬يبحث عن مخارج لأسئلته المتفجرة وتقلبات الوقت والمحنة؟ فكان جيفارا‮ ‬يحوم في‮ ‬عقلك وكل معنى الرومانسية الثورية،‮ ‬التي‮ ‬تعيش معنا حتى الشيخوخة‮. ‬فالرومانسية حلم جميل‮ ‬يعيشها الإنسان الحر‮ ‬يتعشقها في‮ ‬الموسيقى والأدب،‮ ‬وهي‮ ‬روعة فنية للحياة من جانبها السياسي،‮ ‬فما كان منك إلا أن تذهب إلى ظفار كما ذهب روجيه دوبريه إلى بوليفيا،‮ ‬وكان قدركما السقوط في‮ ‬قبضة الأمن،‮ ‬ولولا رعاية الكويت حكومة وشعباً‮ ‬بحقوق أبنائه لما عدت،‮ ‬فربما كان مصيرك قلاعاً‮ ‬وظلمات وقسوة متناهية‮. ‬ترى هل كان الفتى هادئاً‮ ‬في‮ ‬رحلته الكونية تلك،‮ ‬فلم تشفه البندقية ولا مجاهل الغابات،‮ ‬مثلما لم توقفه مرافئ الرحيل في‮ ‬مجاهل المعرفة ومحيطاتها،‮‬فحمل أمتعته على ظهره نحو قلعة جديدة محصنة،‮ ‬ففيها قرر استلهام معرفته،‮ ‬فحطّ‮ ‬رحاله في‮ ‬هارفارد وفي‮ ‬قلب الإمبريالية الأميركية‮. ‬لكم كانت المفارقة قاسية ففي‮ ‬بلد ساءت سمعته في‮ ‬العالم وهو‮ ‬يُغرق فيتنام بقنابل حارقة،‮ ‬كان هو البلد نفسه الذي‮ ‬يقود عصياناً‮ ‬مدنياً‮ ‬ضد التمييز والحرب،‮‬فما كان عليك إلا أن تتعلم من قاعه جذور مكوناته المعقدة،‮ ‬ومن وصفوك بأنك ماركسي‮ ‬ذات‮ ‬يوم لم‮ ‬يخطئوا ويبخسوا حقك،‮ ‬ومن نعتوك بالليبرالي‮ ‬فهم لا‮ ‬يضيفون لك إلا صفة تستحقها،‮ ‬فهناك في‮ ‬الليبرالية تيارات عدة نبيلة قاتلت ضد العبودية،‮ ‬وضد عبودية الاسترقاق الحديث في‮‬مصانع الغرب،‮ ‬هذا الليبرالي‮ ‬واصل قتاله الجديد إيماناً‮ ‬بالمتغيرات والممكن،‮ ‬بأن خليجنا بحاجة إلى مرتكزات مهمة وحيوية كحرية الإنسان والديموقراطية والتنمية المستدامة،‮ ‬في‮ ‬ظروف وشروط الاستقرار الدائم وتقاسم السلطة والدفاع المستميت عن حقوق الإنسان‮.‬ فكان للدكتور الربعي‮ ‬برنامجه الخاص الذي‮ ‬كثيراً‮ ‬ما اختلف وتراجع وتحاور حوله،‮ ‬فكان مصدراً‮ ‬للأسئلة الحائرة والمربكة والمثيرة للجدل،‮ ‬وفي‮ ‬زمن الحراكية المشوّهة لحرية الإنسان بكل عمقها ودلالاتها والاضطرابات الفكرية والسياسية في‮ ‬تاريخ عربي‮ ‬متقلب،‮ ‬كان على الربعي‮ ‬المثقف ألا‮‬يستكين للعواصف،‮ ‬فكان‮ ‬يبحر في‮ ‬أسئلة الفكر والفلسفة والسياسة،‮ ‬فلعلّها تجد له إجابات شافية‮. ‬وبقدر ما علّمته تجربة ظفار القصيرة وتجربة هارفارد الغزيرة من معنى ودلالات،‮ ‬فإنه لم‮ ‬يكن مسحوراً‮ ‬بوجه الغرب وليبراليته من معناها المشوه،‮ ‬فمن منا لم تعد تهمه الحرية،‮ ‬حرية الإنسان،‮ ‬ومن منا لم‮ ‬يعد‮ ‬يستوعب أهمية حقوق الإنسان والديموقراطية كخيار تاريخي‮ ‬لبلدان نامية تؤسس لمشروعها التنويري‮ ‬والحداثي‮ ‬بعيداً‮ ‬عن المزايدة وشعارات سرابية‮.‬ من أجل ذلك قاتل الربعي‮ ‬الذي‮ ‬كان‮ ‬يمر كالبرق سريعاً‮ ‬في‮ ‬قبرص ويختفي‮ ‬كالريح،‮ ‬فلا تسمع عنه إلا أنه هناك بصوت عميق وقوي‮ ‬ومقاتل من أجل الحرية،‮ ‬في‮ ‬أروقة الجامعة وفي‮ ‬قبة البرلمان وفي‮ ‬مكتب الوزارة وفي‮ ‬صولجان شوارع الانتخابات الساخنة‮. ‬لقد صدق إنجلز عندما قال على قبر ماركس كلمته الوداعية الشهيرة‮: “‬أي‮ ‬مشعل للفكر انطفأ،‮ ‬أي‮ ‬قلب عن الخفقان توقف‮”،‮ ‬ومن حقك أن تحمل تلك الشهادة،‮ ‬فقد كنت طالباً‮ ‬مقاتلا للفكر قبل أن تكون معلماً‮ ‬له بقلبك النابض‮. ‬خسرتك ساحتنا في‮ ‬معاركها من أجل التنوير والحرية،‮ وقد تركت لنا مشعلك الذي‮ ‬لا‮ ‬ينطفئ‮.‬
 
صحيفة الايام
1 ابريل 2008