مع التئام مؤتمر الحوار الوطني الذي دعت اليه الجمعيات السياسية في بلادنا مع نهاية شهر مارس /آذار الجاري والذي يأتي وسط ظروف استثنائية بمعنى الكلمة تعيشها البحرين في هذه الفترة بالذات من تاريخ بلادنا، حيث تتزايد دعوات ونزعات الانقسامات الطائفية على خلفية نتائج الانتخابات النيابية في العام 2006 وما تبعها من عوامل تشظي وزيادة في حدة الاحتقانات الاجتماعية والتي لم تخفف من وطأتها حتى فترة البحبوحة المالية التي تعيشها البحرين نتيجة لارتفاع أسعار النفط. فالبحرين التي ربما تميزت عن سواها من دول الجوار الخليجية في طبيعة حراكها الاجتماعي والسياسي، خاصة بعد المصادقة الشعبية الكبيرة على ميثاق العمل الوطني والذي دشنت معه البحرين عهدا جديدا مليئا بالكثير من الطموحات والآمال والوعود على الصعيدين الرسمي و الشعبي. يصح لنا أن نقول أن تلك الظروف الاستثنائية ربما جاءت في جانب كبير منها نتيجة لطبيعة ومضامين ذلك الحراك الذي لازالت فصوله تتداعى حتى اليوم وان بصور شتى ، فعلى الرغم من كل ذلك الزخم الذي ترافق مع عهد الانفراجات السياسية والذي أبقى الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية حبلى بالكثير من الآمال المنتظرة مع وجود قدر ليس بالقليل من الخيبات والمنغصات أحيانا كثيرة، فان المتتبع والراصد الموضوعي لطبيعة ومضامين عملية الصراع تلك ربما استطاع أن يرصد الكثير من الجوانب الايجابية والتي كانت بالفعل متعذرة ابان عهد أمن الدولة البائد، حيث أن طبيعة التغيرات الايجابية التي طرأت على طبيعة العلاقة القائمة بين الدولة بكامل مؤسساتها وهيئاتها والى حد ما بعض القوى المؤثرة فيها من جانب والمجتمع بكافة أطيافه ومكوناته من جانب آخر، يكاد لا يغفل حجم الطاقة الكامنة والقدرة على التغييرالتي باتت تحتويها البحرين بين جوانحها للانطلاق نحو المستقبل بخطى أكثر ثباتا دون التفكير أو الخوف من العودة الى الوراء أو التراجع أو حتى الاعاقة ان شئنا الدقة وبالتالي النكوص عن عملية الاصلاح المنشودة والتي هي الطاقة المحفزة أساسا لجموع أبناء الشعب والذين صوتوا بكثافة بنعم كبيرة لميثاق العمل الوطني باعتباره اللبنة الأولى بل وحجر الزاوية في عملية البناء والاصلاح المنشودة والتي باتت بلا شك تسير ببطء وحيرة وتردد حتى لا نقول أنها تكاد تتوقف نتيجة لتلك الارهاصات والتعارضات التي برزت طيلة السنوات السبع الأخيرة على وجه الخصوص نتيجة لتداخل العديد من وجوه عملية الصراع ذاتها وعلى أكثر من صعيد.
ونستطيع أن ندلل على تردد وبطء بل وحتى تراجع مسيرة الاصلاح المنشودة التي يقودها جلالة الملك بكثير من المؤشرات السياسة والاجتماعية والتي باتت ظاهرة ومرئية حتى بالعين والحس والمتابعة المجردة وفي أكثر من ملف وقضية، ففي الوقت الذي يجب علينا أن نؤكد على طبيعة ومضامين التحول الايجابي في مستويات حرية التعبير والممارسة السياسية في شكلها العام والتي تمثلت بعض مؤشراتها في زيادة مساحة حرية الكلمة المطبوعة تحديدا وذلك الانتشار الواسع في عدد الصحف والمنتديات وحتى نوعية القضايا المطروحة عبر وسائل اعلامنا المقروءة والمسموعة والمرئية أيضا ، فاننا لا نستطيع في المقابل أن نغفل تلك القيود والممنوعات والحواجز التي وضعتها الجهات الرسمية أو شبه الرسمية أحيانا وحتى بعض المؤثرات الاجتماعية على حرية التعبير والممارسة الديموقراطية ومستوى الحريات العامة. وبالمثل نستطيع أن نرصد عشرات الجوانب الايجابية التي كثيرا ما تتخذ ذات المنحى صعودا وهبوطا، وربما يكون من بينها الشروع في بناء بعض أشكال المؤسسات الدستورية من مجالس تمثيلية ومؤسسات قضائية واتساع المساحة أمام تشكل أرحب لمؤسسات المجتمع المدني من جمعيات سياسية وأهلية ونقابات على الرغم مما تعانيه من اختلالات جوهرية متعددة لعل أبرزها حجم القيود والتعسف أحيان تجاه تلك المؤسسات والاعاقات المستمرة لآليات عملها، مما يفصح عن مؤشرات محبطة بالرغم من كل دعاوى الانفتاح والاصلاح، والتي تؤشر بوضوح باتجاه انعدام وجود ايمان حقيقي بأهمية تلك المؤسسات في اشادة وتعزيز النهج الديموقراطي المأمول والاكتفاء بالشكل الفوقي له على حساب الجوهر والمضمون، والذي تكون معه تلك المؤسسات مكونا رئيسيا لاشادة النظام الديموقراطي المنشود والذي هيأ له عهد الانفتاح السياسي ذاته.
من هنا فان تداعي الجمعيات السياسية الى مؤتمر الحوار الوطني يجب أن لا يكون هو الآخر ترفا وتداولا مملا ومساحة زمنية ضائعة من قبل المهتمين بالشأن السياسي والعام في بلادنا حول قضايانا المصيرية، وانما غوصا عميقا في كيفية وسبل تفعيل أدوات وممارسات أكثر جدة واخلاصا، نعتقد جازمين أن بامكاننا لو أردنا أن نقطف بعضا من ثمارها شعبا وحكومة وذلك اذا ما ارتضى الجميع السير حثيثا نحو ايجاد حياة ديموقراطية حقيقية تستفيد من حجم المصاعب التي مررنا ونمر بها منذ عقود، خاصة وان عهد الانفتاح الذي نعيش فصوله راهنا قد أتاح أمامنا جميعا فرصا كبيرة من شأنها لو تم استغلالها جيدا أن تؤّمن مستقبلا أكثر ثقة وتسامحا واحتراما لحقوق الانسان وتنمية مستدامة تعلي من احترام ارادتنا الوطنية وتعزز من هيبة الدولة وتعطي لمجتمعنا مزيدا من الثقة في بلوغ أهدافه المنشودة لتحقيق تنموية مستدامة يمكن أن تكون عامل استقرار نفتقده كثيرا، خاصة مع تصاعد دورات الخصومة المصطنعة أحيانا والمسببة أحيانا أخرى وتكون بالتالي زادا للأجيال القادمة.
على أن ذلك لا يمكن أن يتم كما نطمح من دون أن تقوم الدولة ومؤسساتها أولا بجهود مثابرة واستثنائية أيضا لتحجيم حالات الحرمان والغبن الاجتماعي والتمايز الطبقي الحاد، وتحقيق مبدأ العدالة الاجتماعية تجاه كل فئات وشرائح المجتمع، حيث أن تراكم الملفات الكبرى والمسكوت عنها من قبل الدولة والتي لازالت معلقة دون حلول ومعالجات حقيقية وجادة لازالت تمثل المحك الرئيسي أمام الدولة للتأكيد على حقيقة ايمانها بالتوجه نحو نهج جديد يكفل ديمومة السلم الاجتماعي ويعيد اللحمة للمجتمع الذي يسير الآن باتجاهات متباعدة، خاصة بعد تمكن القوى الطائفية من اضفاء طابعها الطائفي على كل شيء تقريبا ابتداءا من المؤسسة التشريعية وصولا الى ابسط مكونات المجتمع وانسان هذه الأرض الذي اصطبغت بعض شرائحه بكل أسف بظلامة ذلك الفرز الطائفي البغيض والذي نعتقد انه لم يكن ممكنا البتة لو أن الدولة بكامل مؤسساتها وهيئاتها كانت بالفعل حريصة على وقف هذا التدهور الخطير، ولو أنها أيضا – أي الدولة- التزمت بدلا من أن تغذيه بأفعال وممارسات يومية ومعاشة على الأرض، بوضع معالجات مخلصة واجراءات محاسبة صارمة لكل من تسول له اذكاء ممارسات التمييز والانقسام في كل مناحي الحياة من سياسات توظيف وتعيين وتعليم وترّقي لا تقوم أساسا على المبادىء السامية التي أكدها الدستور وميثاق العمل الوطني وبقية القوانين والتشريعات القائمة. كذلك فان المسئولية التاريخية المنتظرة من الدولة وحتى بعض القوى السياسية أيضا تتطلب وقفة بل وقفات أمام كل المظاهر السلبية التي ارتبطت بممارسات التمييز والتي هيأت لممارسات لا تقل عنها خطورة أبدا ونعني بذلك عمليات التجنيس السياسي الواسعة والتي تجد لها من يبررها بين شرائح بعض القوى السياسية، والتي لا يمكن أن تقنع أحدا الا بمخاطرها وانعكاساتها السلبية والمدمرة على المجتمع، وهي تفصح بجلاء عن انعدام ثقة الدولة في شعب هذه الأرض الطيبة بكل أسف!
أضف الى ذلك سكوت بل اهمال الدولة القاتل وغير المفهوم لأخطر وأهم الملفات والتي من بينها ملفات التعديلات الدستورية وعدالة توزيع الدوائر الانتخابية وزيادة صلاحيات السلطة التشريعية، بالاضافة الى اجراء معالجات حاسمة في ملف ضحايا التعذيب في فترات امن الدولة، والذي تعتبر الدولة معنية عنه أساسا،وهو الملف الذي يمكن الشروع فيه سريعا دون ابطاء عبر تفاهمات ممكنة مع قوى المعارضة، خاصة وانه الملف الذي يمكننا بسهولة الولوج اليه مستفيدين
من تجارب دول سبقتنا الى ذلك عربيا وعالميا، وتلك ملفات لو تمت مقاربتها بشكل جاد فانها ستكون كفيلة باستعادة مسيرة الاصلاح السياسي لزخمها المفقود دون ابطاء أو تراجع.
واخيرا أتمنى مخلصا من مؤتمر الحوار الوطني أن يكون انطلاقة حقيقية وجادة من قبل الدولة وقوى المعارضة على حد سواء للبدء في تفعيل مبادرات وحلول جادة طال انتظارها باتجاه كافة قضايانا الدستورية والحقوقية والسياسية والاجتماعية، مبتعدين عن حالة المراوحة والخطابية المفرطة والتنافر وتكريس نهج الخصومة بين الدولة والمجتمع ممثلا في قواه الحية، تلك الخصومة التي أرهقت كاهل شعبنا بالكثير من التبعات والتراجعات وعززت كثيرا من مظاهر انعدام الثقة والتواكل والانزياحات المكلفة لشرائح مجتمعية هامة كم يحتاجها الوطن في مسيرته نحو المستقبل.
خاص بالتقدمي
25 مارس 2008