الفسحة النيابية والبلدية الحالية التي أوشكت على مغادرة الكثير من الكلام أو الثرثرة على وجه أصح وأدق، كان اللاعب الأساسي فيها دون هوادة -للأسف الشديد- هم الناخبون وبعض المثقفين المستنيرين، سواء كانوا منتمين لجمعيات سياسية أو أهلية أو من خارجها، هؤلاء هم من يتحمل مسؤولية كل ‘البلاوي’ والمصائب و’اللخبطة’ التي تورط الوطن بحبائلها وشباكها الحمقاء وأرجأت الكثير من المشروعات التي كان لها أن تصب في قنوات تبعث الروح في جسد المجتمع وتجدد دمه لولا العراقيل الشرسة التي أهداها الناخبون والمثقفون المستنيرون – بوعي أو دون وعي- لمن رشحوهم أو انتخبوهم. هؤلاء هم من يتحمل المسؤولية قبل أي جهة أخرى اعتادوا أن يمتطوها عنوة حين يستبد بهم الفشل في تقدير الأمور أو حين تتعرش المكابرة رؤوسهم فيصبحوا على ما ‘ارتكبوا واغترفوا’ فاهمين وموقنين، وغالباً ما تكون المطية أو الشماعة ‘التقليدية’ التاريخية والأزلية -حتى وإن تغير الحال- هي ‘الحكومة’ وليس هم أو غيرها على سبيل توزيع ‘دوائر’ المسؤولية!! أقول هم من يتحمل المسؤولية لأن جماهير كثيرة من الناخبين رشحت وانتخبت وروجت بعماء لا مثيل له لمن يقف ضد الحريات المسؤولة ولمن يقف في وجه مصالحها وقضاياها الحيوية والملحة ولمن يستغل قبة البرلمان لمصالحه النفعية الضيقة ولمن يحارب العقل بـ ‘ملاليم’ الجهل والتخلف والحمق ولمن يعتقد أن أمور الدنيا تحل بالنوايا والورع والتقوى ولمن يخلط بين منبر القانون ومنبر النصيحة ولمن استغل وجوده في البرلمان ليزكي هذا على الإيمان ويكفر ذاك على ما ‘كسبت يمينه’ من إيمان ولمن يعتقد أن البرلمان لا تعددية فيه لصوت إلا بما انبرى تحت لواء صوته هو ونما في جبته ولمن استثمر الصناديق الخيرية و’الفاعلين في الخير’ للتستر على ما ‘ملكت’ يداه ولضمان حسابه الخاص ولمن سخر طاقته و’هيبته’ للوقوف في وجه من لا يستطع عليه ‘فعلاً’ وقانوناً بالحكمة والرؤية الحصيفة والثاقبة ولمن ينتصر للإرهاب باعتباره ‘حق’ ويدينه متى شاء ذلك أو اقتضى الأمر منه أن يدينه بانتصار خجول قد يكون قليله ‘نافع’ ولمن ينافح عن أعراف ما قبل الدولة باعتبارها قانون ما قبل الدولة ولمن يشيع غيرته على الدين وكأنه ‘وكيله’ الأول في البلاد قبل غيرته على كثير مما يتضمنه الدين من منفعة للعباد ولمن يجتهد ‘جاهداً’ لوأد قانون الأحوال الشخصية واستمرار إشاعة الاضطهاد للمرأة تحت مظلة ‘القوامون’ عليها باعتبارها ناقصة عقل ودين ومخلوقة من ضلع أعوج وهي التي -للأسف الشديد- قادته بنسبتها المجتمعية الأكبر إلى قبة البرلمان والبلدي ولمن حرم ويحرم أطفالنا وأبناءنا من حبهم وهوايتهم للموسيقى والمسرح والفنون في الروضات والحضانات والمدارس بل ويجبر ذوي الشأن على تحريم مثل هذه الفنون في هذه البيئات التربوية لأنها مكروهة أو رجس من عمل الشيطان وإذا شاء استضافها لتخدم لفترة مؤقتة أو مستمرة أغراضه ومراميه الخاصة. ولتكون ضد المخيلة والإبداع والتفكير ولمن يستثمر قاعدته المذهبية العريضة فيشيع في واسع الأرض وضيقها مراكز وفروع لتدريس أسس وأصول مذهبه هو وكما لو أن المدارس والمعاهد التي تلتقي في فيئها كل الأطياف ووفق منهج مشترك غير قادرة على استيعاب ما يذهب إليه أو كما لو أنه حسم سلفاً بأن لا رؤية في هذا الشأن تأتي في سياق استراتيجي مشترك إلا بما ضمن انتشار هذه المراكز والفروع كضرورة. لا بد منها للحصانة من ‘نبذ’ الطائفية، ولمن يترك شؤون الناس ومطالبهم في سبيل الترويج لنفسه لانتخابه مجدداً للمجلسين القادمين عبر فتح دورات رياضية أو مدرسية مؤقتة أو تنظيم رحلات ترفيهية أو التصدق على أبناء دائرته ببعض ما جادت يداه أو ‘أيادي’ الجهة التي تقف خلفه ببعض الكراريس والأقلام والحقائب للعام الدراسي الجديد وكما لو أنه يقر سلفاً بمشكلة ما تذكرها في الربع الأخير من انتهاء صلاحية مدته.. و.. لمن أشكو والشكوى لغير الله مذلة؟! إزاء هكذا حال، هل يمكننا أن نقر بأن هذا النوع من الجماهير الناخبة والمرشحة كان مصيباً في اختياره لمن رشح وانتخب؟ وهل ستعيد هذه الجماهير الكرة في ترشيح وانتخاب مثل هذا النوع من ‘البلاء’ في المجلسين القادمين؟ أتمنى وليس على المتمني حرج، أن تعيد هذه الجماهير النظر فيمن تنوي ترشيحهم أو انتخابهم في المرة القادمة والله من وراء القصد. الطامة الكبرى، سلبية بعض من أعني من المثقفين ‘المستنيرين’ ممن ترشحوا للمجلسين ولم يحالفهم الحظ أو ممن لم يترشح، فالمرشحون الذين لم يتأهلوا للحظوة بمقعد في المجلسين، بمجرد إعلان النتائج طووا خيامهم وانضووا في عزلتهم وكما لو أن يوم عدم ‘موفقيتهم’ هو يوم إعلان موات الحراك المجتمعي في المملكة، وبدل أن يزاولوا نشاطهم المجتمعي لتعرية ما .قد ينجم عن ‘الموفقين’ من إشكالات وعواقب قد تقود المجتمع برمته إلى هاوية التخلف انكفؤا على نفسهم وراحوا يتفرجون، وعليه من حق أي ناخب أن يدين مثل هذا النوع من المترشحين المثقفين ويكشف سلبياتهم ويمتنع في دورات قادمة عن انتخابهم أو ترشيحهم، وللأسف بعض المترشحين ممن لم يوفقوا ‘وهبوا’ أصواتهم وبحماس شديد لمن يقف ضد البرلمان وضد القانون والدستور ولمن ينبري تحت مظلة المؤسسات الدينية المتطرفة نكاية في مترشح آخر من نفس منطقتهم و’حواريهم’ قد يكون أقرب إليهم من ذلك النائب الذي وهبوه أصواتهم، والطريف في الأمر وقوع مثل هؤلاء في يقظة عابرة حين استفحل خطاب بعض المثقفين المستنيرين ضد من وهبوه أصواتهم، فراحوا يدينونه ويهاجمونه و’حشر مع الناس عيد’ وكأنهم لم يكونوا بالأمس ممن ناصروه! مثل هؤلاء من المثقفين هل يعول عليهم مستقبلاً في تبني قضايا أبناء دائرتهم أو مجتمعهم؟ أليسوا أقرب حالاً من الأخوة الذين تفتحت أعينهم بغتة في النزع الأخير ليفصحوا عن حكمتهم المؤجلة والتي قد تزكيهم لإحدى مقاعد المجلسين؟ أليس ذلك المسلك المضطرب ينم عن إشكالية خطيرة في الوعي يعاني منها هذا النوع من المثقفين؟! الطامة الثقافية الأخرى ‘تتجلى’ في بعض مؤسسات المجتمع المدني المستنيرة، والتي -للأسف الشديد- لا يعرف بعضها من يرشح أو ينتخب أو يختار للمجلسين القادمين ولكنه مستعد لأن يتبنى أصواتاً أخرى من خارج مؤسسته ويعد لها حملته الانتخابية، أليست تلك المفارقات تنم عن مشكلة يعاني منها جسد هذا النوع من المؤسسات؟ وهل يستطيع الجسد المشلول الذي لم يتمكن بعد من تشكيل رؤيته المجتمعية واختيار بعض العناصر الناشطة في مؤسسته للترشح للمجلسين القادمين قادر على حماية شلو من أشلائه المبعثرة والهزيلة والواهنة؟ أعتقد أن أول من يساهم في تزكية وتأكيد وتفعيل دور من يقف ضد البرلمان وضدهم هم هذا النوع من المؤسسات وهم من سيساهم في يأس الناخبين منهم وهم من سيساعد على تطويل عمر التخلف في مجتمعنا وهم من تقع على عاتقهم مسؤولية إرجاء فاعلية المشروع الإصلاحي وعدم ثقة الأجيال الحالية والقادمة بهم وهم من سيجعلنا نكفر بالبلدي والنيابي، ذلك أن التصدي لبؤر التخلف والجهل في أي مجتمع هي المهمة الأولى التي ينبغي على مثقفي التنوير تحملها والدفاع عنها وإلا فما حدث في المجلسين السابقين سيتكرر في المجلسين القادمين وربما بشكل أسوأ من السابق، حينها لا ينبغي أن نلوم أحداً من الشارع المجتمعي إذا أعلن طلاقه ‘المطلق’ من هؤلاء المثقفين المستنيرين ومن المؤسسات المستنيرة في المجتمع!!.
صحيفة الوطن
26 مارس 2008