بينما كانت مصر خلال الحقبة الناصرية ابان خمسينيات وستينيات القرن الماضي في طليعة البلدان العربية المعروفة بانخفاض تكاليف الحياة المعيشية فيها، ورخص السلع الاساسية وحتى الكمالية، ومن ثم تكيف الاجور – رغم تدنيها – مع هذا المستوى من الحياة المعيشية، أضحت اليوم في مقدمة الأقطار العربية من حيث ارتفاع تكاليف الحياة المعيشية، بما في ذلك الارتفاع الصاروخي لأسعار السلع مع بقاء أجور العاملين، على اختلاف مستوياتهم وتخصصاتهم، على حالها لا تكاد تتغير. وطبقا للتقارير الاخبارية الصحفية فان معدل التضخم السنوي بلغ في فبراير الماضي 5،12%، وفي خلال عام واحد فقط ارتفعت أسعار المواد الغذائية، وبضمنها أسعار الرغيف غير المدعوم بنسبة 5،26%. أما أسعار منتجات الألبان فقد ارتفعت بنسبة 20%، والزيت 40%، وثمة سلع غذائية اخرى ارتفعت أسعارها خلال عام واحد فقط 122% حسب معطيات الصحف القومية الثلاث شبه الرسمية (الأهرام، الاخبار، الجمهورية). ويشير الخبير الاقتصادي في مركز الاهرام للدراسات الاستراتيجية أحمد النجار إلى ان نسبة التضخم الحقيقية هي أعلى بكثير من الأرقام الرسمية المعلنة. أما برنامج الغذاء العالمي فقد قدر ان مصاريف الاسرة المتوسطة ازدادت بنسبة 50% منذ مطلع العام الجاري، في حين قدّر البنك الدولي ان ما لا يقل عن 20% من المصريين البالغ عددهم 78 مليون نسمة يعيشون تحت خط الفقر (2 دولار يوميا)، و20% يعيشون بالكاد فوق خط الفقر، و38% في حالة فقر مدقع. وفي مثل هذه الظروف المعيشية المتدهورة البالغة السوء شهدت مصر موجات متعاقبة من الاضرابات المطالبة برفع الاجور في مؤسسات القطاعين العام والخاص، لعل أشهرها اضراب مصانع النسيج في المحلة الكبرى خلال رمضان الفائت. وازاء هذه الاوضاع المعيشية المتفاقمة يبدو ان عدوى الاضرابات قد انتقلت مؤخرا إلى قطاعين حساسين قلما لجأ أي منهما إلى هذه الوسيلة وهما قطاع الاطباء وقطاع أساتذة الجامعات، وهما قطاعان يفترض بأن رواتب العاملين فيهما معقولة إلى حد ما. ولعل مشاهدة اصطفاف آلاف الناس أمام افران الرغيف منذ الساعات الاولى من الفجر ودخولهم في منازعات ومشاجرات عنيفة افضى العديد منها الى مصادمات قاتلة، هي من أكثر المشاهد الدامية لما فعله الغلاء بكرامة المصريين. ومع ذلك يمكن القول: إن ثمة محاولات رسمية تبذل لمواجهة هذا الوضع الذي ينذر بالكارثة الامنية وبخاصة في ظل انفجار سكاني حاد، وفساد متفاقم غير مسبوق في حجمه طوال تاريخ مصر، وعلى الأقل ثمة مؤسسات نقابية ومدنية، وهامش من حرية الصحافة واستقلال المؤسسة القضائية.. بينما هذه المزايا في مواجهة كارثة الغلاء تكاد تنعدم في أغلب الدول العربية، وعلى الأخص الخليجية. *** علاوة الغلاء كأنما ليس كافيا ان يقتنع المواطن البسيط بهذا المبلغ الزهيد المحدد بـ 50 دينارا كعلاوة غلاء ولمدة عام واحد فقط، وكأنما ليس كافيا ان يتفرج هذا المواطن منذ شهور على هذه المجادلات والإحالات والاجتماعات واللجان المشتركة بين الحكومة والمجلس النيابي أو بين المجلس النيابي ومجلس الشورى، أي ادخاله – المواطن – في “مرمطة” وبهدلة لا يعرف رأسها من كرياسها من أجل حفنة هذه الـ 50 دينارا، والتي هي اساسا من مال هو المال العام، فإذا به يجد نفسه من مشاهير الاعلام في الصحافة لوجود اسمه ضمن قائمة مستحقي علاوة الخمسين دينارا هذه لتنهال عليه المكالمات التليفونية من كل حدب وصوب مهنئة اياه بظهور اسمه ضمن مستحقي “الصدقة”. حقيقة لا أحد يفهم هذه النماذج المتناقضة من الشفافية في نشر الاسماء، ففي حين بحت اصوات الناس وهي تطالب منذ سنوات بنشر أسماء الطلبة المستحقين للبعثات والمنح في حين تصر الوزارة على نشر أرقامهم السكانية من دون نشر أسمائهم، وعلى العكس من ذلك فانه في الوقت الذي يفترض ان تنتفي الحاجة تماما إلى نشر اسماء مستحقي “صدقة” الغلاء فانه يتم نشر أسمائهم والتشهير بحاجتهم الى هذا المبلغ الزهيد على الملأ وكأنهم ربحوا 50 مليون دينار لا 50 دينارا لا تغني ولا تسمن من جوع. ولئن كان من حسن حظ الذين لم تشملهم القائمة ان اسماءهم حجبت لتحفظ ماء وجوههم – ولاسيما اذا ما كانوا من موظفي الحكومة – فان ماء وجوههم هذه سرعان ما ستتم إراقتها بإلزامهم مراجعة مراكز التسجيل لإثبات مستحقيتهم، وذلك لمجرد ان الجهات الرسمية المعنية وقعت في أخطاء فنية او بيانية او احصائية ما كان ينبغي ان تقع فيها. يا جماعة “الخير”، المسألة في منتهى البساطة ولا تحتاج الى كل هذه التعقيدات والتطويلات، فكما حصلتم على القائمة التي نشرت في الصحافة من الجهة الرسمية المعنية، فبإمكانكم الحصول على قائمة متكاملة للمستحقين الذين لم تشملهم هذه القائمة من الجهة نفسها، ولا داعي لهذا السحق المتواصل لكرامة المواطن المسحوق من أجل بضعة دنانير هي في الأصل من ماله العام.
صحيفة اخبار الخليج
26 مارس 2008