المنشور

العلاج بالكتابة

ثمة قاعدة متداولة،‮ ‬شائعة ومتوارثة أيضاً‮ ‬تؤكد أن‮ “‬العقل السليم في‮ ‬الجسم السليم‮”. ‬ونحن جميعاً‮ ‬أسرى هذا الاعتقاد الذي‮ ‬هو بمثابة‮ ‬يقين‮.‬ ولو تأملنا في‮ ‬سيرة الكثير من العباقرة والمبدعين لبدا لنا أن كثيرين منهم كانوا ذوي‮ ‬أجسام عليلة،‮ ‬ناحلة،‮ ‬نخرها المرض،‮ ‬ولكنهم مع ذلك أبدعوا وهم في‮ ‬هذه الحال أجمل وأروع أعمالهم‮. ‬ويمكن أن نسوق في‮ ‬هذا المجال أسماء عدة،‮ ‬ونذكر على سبيل المثال لا الحصر،‮ ‬بدر شاكر السياب الذي‮ ‬كتب من على فراش مرضه في‮ ‬أحد المستشفيات بالكويت عدداً‮ ‬من قصائده الخالدة،‮ ‬وأمل دنقل الشاعر المصري‮ ‬الذي‮ ‬اختطفه الموت مبكراً‮ ‬كتب أعماله الأخيرة وهو على سرير المرض‮.‬ وأنضج أعمال سعدالله ونوس وأعمقها وأبعدها أثراً‮ ‬كتبها في‮ ‬السنوات الأخيرة‮ ‬يوم تسلل السرطان إلى خلايا جسده المنهك،‮ ‬وكرر في‮ ‬أكثر من مناسبة،‮ ‬بما في‮ ‬ذلك كلمته الشهيرة بمناسبة‮ ‬يوم المسرح العالمي،‮ ‬إنه‮ ‬يقاوم السرطان بالكتابة‮.‬ ونعرف من التاريخ أن المفكر الإيطالي‮ ‬الشهير انطونيو‮ ‬غراشي‮ ‬كتب أهم أعماله على الإطلاق،‮ ‬أي‮ ‬دفاتر السجن وهو‮ ‬يعاني‮ ‬من أمراض مختلفة لم تمهله طويلاً‮ ‬بعد خروجه من السجن الذي‮ ‬قضى فيه قرابة عشرين عاماً،‮ ‬وتضمنت هذه الدفاتر خلاصاته الأساسية في‮ ‬الفكر ومفهوم الثقافة والمثقف العضوي‮ ‬وأطروحاته الشهيرة عن المجتمع المدني‮.‬ وكان الروائي‮ ‬ديستوفسكي‮ ‬يعاني‮ ‬من نوبات الصرع التي‮ ‬تجتاحه بين الحين والآخر،‮ ‬ويظن بعض النقاد أن هذه الحالات كانت إحدى مخصبات الخيال الروائي‮ ‬والإبداعي،‮ ‬الذي‮ ‬أسعفه في‮ ‬تحليل دواخل النفس البشرية بالصورة التي‮ ‬جعلت البعض‮ ‬يعتقد أنه سبق فرويد في‮ ‬بعض حقول التحليل النفسي‮.‬ والحق،‮ ‬أن العلاقة بين الكتابة والمرض حالة تدعو أو تحرض على التأمل،‮ ‬خاصة حين نلاحظ أن كتابات هؤلاء الكتاب والمبدعين المرضى،‮ ‬الذين أشرنا إلى نماذج منهم،‮ ‬أكثر صحة وعافية وتألقاً‮ ‬من كتابات آخرين‮ ‬يتمتعون بكامل الصحة‮.‬ وليست هذه على كل حال مسلمة،‮ ‬كأن نقول إنه لكي‮ ‬يكتب الكاتب كتابة مبدعة وأصيلة عليه أن‮ ‬يكون مريضاً،‮ ‬وإلا لفقدت كل المطالبات بتحسين ظروف الكتاب ورعايتهم وتأمين العناية الصحية والمادية لهم كل مبرراتها‮.‬ وما دمنا في‮ ‬إطار الحديث عن العلاقة بين المرض والكتابة،‮ ‬حري‮ ‬بنا الإشارة إلى ما‮ ‬يسميه البعض مرض الكتابة،‮ ‬الذي‮ ‬يمكن أن‮ ‬يتحول في‮ ‬حالات كثيرة إلى مرض مزمن لا علاج له،‮ ‬إلا إذا انطلقنا من تلك القاعدة التي‮ ‬تعطي‮ ‬الدواء من نفس الداء،‮ ‬كأن تكون الكتابة نفسها نوعاً‮ ‬من التنفيس أو التسكين من أعراض وآلام المرض الذي‮ ‬ينتاب من‮ ‬يدمنها‮.‬
 
صحيفة الايام
25 مارس 2008