مدخل
ها نحن نمضي في عامنا الثاني ونركب نفس السفينة وبنفس الأوراق المكتوبة ’والطموحات والرغبات في إبعاد بلادنا عن اخطر شر يفتك بتمزيق ووحدة الشعوب وتماسكها ’ ألا وهو شرور تفشي وباء الطائفية والعرقية. لا احد يرفع صوته معارضا وشجاعا قائلا : نعم أنا مع الطائفية واحمل في داخلي جزء من مكونات هذا الجرثوم ’ وهو يتحرك من العمق إلى السطح كلما وقع شعور بالإحساس إن هناك تمييز اجتماعي وسياسي قائم ضدي على أسس طائفية . ترى كيف تستيقظ تلك المشاعر الدفينة ’والتي ربما جزء من مكونات اللاوعي الاجتماعي يختزنها ’ وقائم على الموروث الثقافي والانفصال والعزلة السكانية والمحيط المؤثر هنا وهناك ’ فهل نحن من يستولد تلك الظاهرة البغيضة وبرميل البارود ’الذي لم ننزع فتيله نهائيا ’ أم أنها جزء بنيوي من تركيبتنا السوسيو- تاريخية ’ وبحاجة إلى خطة إستراتيجية تساهم فيها أطراف عدة ’ ومن أبرزها الدولة ومنظمات المجتمع المدني ’ باعتبارهما مكونان فاعلا ومؤثران في تلك الظاهرة بوجهيها السلبي والايجابي ’ وهما يملكان مفتاح معالجتها متى ما جلس الطرفان ’وتناقشا على أساس من الصراحة والشفافية وبناء الثقة من اجل مجتمع بحريني مستقر ’وقائم على المواطنة الحقة بين كافة أبنائه .
*في أي اتجاه نتحاور
لا تجتمع مجموعة سياسية ورموز وطنية ’ أهلية ورسمية حول طاولة للحوار إلا وهدفها انجاز مشروع ذلك اللقاء وبهدف تحقيق ما تصبو إليه . تلك حقيقة مهمة ’ والذين يأتون بغرض التشويش والمماطلة واختيار وسائل التعجيز واليأس فإنهم يضعون العربة أمام الحصان ’ ويدخلون المتحاورين في الدائرة المغلقة ’ مثل هؤلاء جلسوا منذ الخطوات الأولى للحوار بنوايا التصلب ’ وبروح لا ترغب في معالجة المعضلة ’انطلاقا من مبدأ إن لكل ظاهرة ومشكلة حلول وخيارات ’ المهم التعاون على وضع أسس ووسائل لتحقيق الهدف المرجو ’وهو الطائفية كمسألة خطرة على الوحدة الوطنية ’ ولا يجوز تركها للقدر والصدفة والتلقائية تعبث بها إلى جانب تلك العناصر المجتمعية والقوى السياسية والدينية ’تحركها كأوراق للابتزاز والضغط بين الحين والأخر ’ وتتركها دون رغبة في إنهاء كل ترسباتها ومولداتها وأسبابها . ما ينبغي للمتحاورين وهم يتقابلون أن يضعوا نصب أعينهم إمكانية التنازل المتبادل ’ إذا ما وجد كل طرف انه متشبث بجزء جوهري من أجندته السياسية. لهذا ينبغي الحوار أن يكون في اتجاه التوافق والانسجام فيما بين المتناقضات ’ فذلك يتيح للحوار اختراق صقيع الجليد المتجمد وعقبة الصراع وتذليل المعوقات .
هل ننطلق من المشروع الإصلاحي ؟
لا يعرف البعض عادة كيف نبدأ في مسك الخيط الرفيع للمعضلة ومن أين ننطلق كأرضية للحوار وماهو المرتكز الأساسي في مشروعنا للبحث في مسألة الطائفية وقضية الوحدة الوطنية كقطبين متداخلين ؟. اعتقد أن مفتاح نقاشنا يبدأ حول ما الذي قدمه لنا المشروع الإصلاحي حول رؤيته للطائفية والوحدة الوطنية ؟. مثل هذا السؤال يحيلنا مباشرة لمواد الميثاق والدستور ’ فمن خلال تلك الوثيقتين علينا الانطلاق ’ كونهما قدمتا لنا أساسا متينا من حرص الملك والعهد الجديد على ضرورة التمسك بالوحدة الوطنية وبرفض الطائفية. كل شيء يبدو في النص المكتوب رائعا ونبيلا ومهما لطاولتنا الحوارية ’ غير أن الحقيقة هو كيف عالج المشروع الإصلاحي تلك الظاهرة الإشكالية بمشروع تفصيلي يتعدى الخطاب السياسي ’ بحيث يصبح مكافحة الطائفية مشروعنا الحقيقي لكي لا نحفر في الماء ’ولا نركض خلف السراب أو نأتي كل مرة للحوار حالما يصل الفيضان إلى بيوتنا يهددنا بالغرق . فالطائفية كخطر يهدد المجتمع ’ ولا ينبغي أن نراه في مرحلتنا فقط ’ وإنما بمدى استمرار هذه المشكلة وتحولها للجيل القادم ’ والذي نهدف بان لا يقع في وبائها وشركها ’ بقدر ما نسعى أن تتشكل في وجدانه حقائق جديدة وقيم جديدة ونهج وسلوك جديد مناهضا لغريزته الوطنية ’ولكل ما يثير لديه شعورا بنعرة طائفية . ولب المشكلة وضرورتها وفق رأي’ هو سعينا لتجنيب الجيل القادم وباء توارثناه نحن خلال القرن المنصرم ’ وحان الوقت لكي نجعل الجيل القادم محصنة روحه ووجدانه من ركام ذلك الموروث السيئ ’ كحلم جميل يحقق صلابة في وحدتنا الوطنية. ولكن كيف ننجز عملا جبارا اسمه اجتثاث أمراض الماضي البعيد ’ دون ملامح وخطوط واضحة في كل جانب من حياتنا اليومية ’ تدلل بوجود الطائفية المعلنة وغير المعلنة ؟
مساحة الأمنيات وحقيقة التغيير
يحمل كل مواطن بحريني في داخله أمنيات كثيرة ’ وبطبيعته يميل إلى السكون والرغبات المستعجلة مثل طيبته ’ ولكن الحياة ليست كذلك. ولكي تنجز الأمنيات الأولية كالعمل والسكن والعدالة الاجتماعية والاستقرار ’ فان أدوات التغيير تتطلب شراكة متبادلة بين الدولة والمجتمع ’ على أساس من دينامكية التغيير وحقيقتها بفهم الواقع الجديد في مرحلة الإصلاح ’والآلية الضرورية للقفز والتغيير لموروث حقبة الماضي ’لدولة لم تستكمل مقومات وجودها الحقيقي ’ فقد ساهمت بتعميق مرحلة ما بعد الاستقلال بالمزيد من القمع وأدوات الكبت واستشراء الفساد ’ وتركت جذورها ممتدة متغلغلة في جسد المرحلة اللاحقة ’ مما يربك المستجدات الإصلاحية ’ ويترك في الساحة السياسية متناقضات لم تستوعبها الحركة السياسية أيضا ’كونها مبنية على ذهنية المعارضة المطلقة ونهجها التقليدي ’ ولم تتح للحيوية السياسية الجديدة للدولة والمجتمع بتلمس خطواتها ’وتحريك مشروع الإصلاح نحو الأعمق والفاعل باستمرار كنهج للتغيير والتطوير بآليات صعبة ’ ولكن بالإمكان تخطيها بشرط الشعور المتبادل بالثقة ’ بأن التدريج كمنهج يمر بقنوات أفضل وللأمام وليس العكس كما يراها المجتمع أحيانا ’ فلم يستوعب أن القديم مازال قائما وان الجديد يولد من رحم ذلك الماضي ’بعملية ولادة عسيرة وليس بقوانين خارجه تتحقق كمعجزة سماوية .
الديمقراطية والتنمية سبيلنا التاريخي
هل يوجد لدينا خيار مختلف عن خيار الديمقراطية وهي تنمو وتتطور ’وتنمية متراكمة يشعر الفرد بمؤثراتها الحياتية ويلمس معطياتها يوما اثر يوم ؟ لهذا علينا أن نؤمن بأن خيارنا الحقيقي هو تلك الحقيقتين المتداخلتين ’ السياسية والاجتماعية ’ اللتان حملهما لنا المشروع الاصطلاحي ’ برغم كل العثرات التي واجهها كما لم يكن حاسما معها ’ ولم نكن جميعنا راضين عنها ’ ولكننا واصلنا نقدنا وملاحقتنا لترسبات ومتبقيات تلك الترسبات المحيطة بجسد وداخل الدولة والمجتمع’ نتيجة فضاء وهوامش الديمقراطية . وليس بإمكان أي دولة أو مجتمع اجتثاث جذوره بالسهولة المتخيلة ’ وإنما بوضع مناهج وأسس للتغيير فهي سبيلنا التاريخي الوحيد ’ وعلى طرفي الصراع ’ في الدولة والمجتمع التكاتف حولها ’ وإلا ستفرز عملية التجاهل والتغافل عنها ظواهرها الشرسة ’ والتي من أبرزها الطائفية ’ ففيها دمار الطرفين ’ فخطر الطائفية لا يعرف أحدا ’ عندما ينفجر كالشيطان ويبلغ العنف فيه التدمير الجامح دون توقف وبروح عصبية عمياء . سبيلنا التاريخي الوحيد أن نمسك بخيطنا الأساسي لنمضي في مواجهة الماضي المظلم من اجل حياة أفضل ’ وقد قدمها الإصلاح كمنفذ للسيطرة على الاحتقان في خطوته الأولى ’ ثم الخروج من دائرة النفق والدخول في مربع أوسع من الحياة السياسية’ والديمقراطية حلقتنا الجديدة بدائرة أعمق تحقق نجاحها التنمية الحقيقية للمجتمع وبصورة عادلة .
الانتقال من البؤس إلى تنمية محسوسة
عندما زار ولي العهد بعض القرى وشاهد بأم عينيه نموذج من البؤس ’ والتي لا ينبغي أن توجد في دولة نفطية وصغيرة بالسكان ’ وضعا مزريا يذكرنا بأحزمة البؤس في مدن العالم الثالث ’ والتي تحيط بالمدن الرئيسية القريبة من برميل الانفجار المحتمل في أي وقت . ولكي تتجنب الدولة والمجتمع حالة الانفجار الدائم والصدام العنيف ’ فلا بد من تنمية عاجلة وصادقة ومحسوسة وقائمة على برنامج تنموي فاعل ’تحققه الثقة والشروط الملموسة من أهمها مسألة التمييز الاجتماعي ’ وبعضها قد يصطدم مع جزء من ثقافتنا ونهجنا الحياتي ’ وهو شرط ضروري لتحقيق تنمية أفضل لتوزيع الثروة والدخل الوطني ’ فلا يمكن أن تتسارع الحلول في ظل وضع ديمغرافي أسرع مما نتصور ’ فثقافة القرية البحرينية – دون استثناء – بل ومدنها تحتاج إلى تنظيم النسل ’ فوحده يساعد على تحسين التنمية من نواح عديدة . مثل هذا الشرط لن ينجز ما لم يساهم في برنامجه أطراف عدة لكي ينجح في إقناع الناس ’بأن جزء من رفاهية الفرد وتحسين خدماته أيضا هو ذلك الإخطبوط السكاني لثروة نفطية متآكلة ’فلن تنجح برامج تخطيط وتنمية سليمة دون تعاون الأطراف جميعها ’باعتبارها حلقة واحدة وعلى رأس تلك الحلقة الدولة ورجال الدين ’ فلدى كل منهما عوامل تأثير كبيرة في الوعي الاجتماعي ’ وفي شكل الإنفاق والتوزيع وسد ثغرات مستفزة كالتجنيس في ظرف سياسي حساس يعزز روح الطائفية بدلا من مكافحتها ’مهما حاولنا التبرير والتقليل من المخاوف المؤثرة .
مما نخاف في الداخل.
يبدو سؤالنا واضحا وبسيطا ولكنه من المختلف الإجابة عليه. ربما ظواهر عدة تولد أحزمة التفخيخ والانفجار الاجتماعي ’ كالفقر ’ البطالة ’ والطائفية ’ أما المناهج والسلوكيات الأخرى كالفساد المالي والإداري ’ فان السيطرة عليهما أسهل طالما وجدت الإرادة الصادقة والمستمرة في ملاحقة الحيتان وليس الأسماك الصغيرة . تبقى عناصر تفرز وتؤثر في بعضها البعض ’ فالبطالة عنصر متداخل مع حالة الفقر ’ فكلما زادت البطالة تعمقت ظاهرة الفقر’ وكلما تم مكافحة تلك الظاهرة تراجعت نسبته ’ هذه المعادلة سهلة في علم الاقتصاد ولكنها صعبة في واقع حياة تتخللها ظواهر فاسدة ’ لهذا تتكاثر وتتعمق ظواهر أخرى كالجريمة وتستعيد نفسها شبح الطائفية إذا ما وجد العاطل عن العمل إن فرصة التوظيف مبنية على أسس التمييز الاجتماعي والعرقي ’ فهل بالإمكان تجنب هذا الخطر الداخلي المتضخم كالسرطان القاتل ؟ الإجابة نعم متى ما رغبنا في بناء شراكة حقيقية في وطن يقدم لكل أبنائه شعورا بالمواطنة والانتماء ولولاء واحد ولمرجعية واحدة لا تعلو عليها مرجعيات سياسية أخرى ’ هما الدستور وشرعية الحكم التي قبلت كل أطراف الخلاف بمرجعيته وأقسمت على صونه . وبدون أن نقتل الطائفية من مهدها ’ فان المخاوف ستبقى كابوس ليلي دائم للأمن الاجتماعي والتنمية ’وكل مشروع إصلاحي يرغب بنقل البحرين نحو ألفية ’ أكثر استقرارا من الماضي المزدحم بالاحتقانات والصدام والألم.
جذور الطائفية
ربما تقليب أوراق وصفحات الماضي تسهل علينا قرءاه كل الحقائق التاريخية ’ ولكن التاريخ عملية متحركة ومتناقضة ومؤلمة أحيانا ’ ولا يجدي الاستعانة بها من اجل بناء دولة عصرية تسعى إرساء لبنة مستقبل أفضل. وطالما التاريخ مؤلم يرثنا البكاء والتحسر فلماذا نستعين بجذوره ومواجعه ’ ونقف أمام جثته نستجدي ؟ فكل تاريخ الشعوب قام على الصراع والتجاذبات القبلية والطائفية والعرقية ’ ولسنا وحدنا نتميز بتلك الظاهرة السلبية ’ ما أخطأنا كشعب ونظام إننا لم نجتث مخاطر الطائفية ونسينا إن حقيقة ’’الطائفة ’’مسألة تاريخية لا يجوز تخطيها ’ولا يمكن فعل ذلك غير أن ’’الطائفية ’’نزعة ونعرة سياسية ’ وبين التاريخ والسياسة بون شاسع ولكن ممتد ومتداخل لشعوب وأنظمة تركت في جسدها جروح تنكأ وتتواصل روح الطائفية دون وعي بمكامنها العميقة ’ حيث تمَوّج تاريخنا بمحطات سياسية امتصت مظاهر التاريخ الطائفي إلى الوراء دون إلغائه ’ وتركته في العمق يمرر كيفما يشاء ’ وينفجر ويستيقظ كلما تذكر انه يعيش هامشية الواقع الاجتماعي . كان لدى الدولة المستقلة الحديثة فرصتها التاريخية بوضع برامج في اتجاه هذا العدو الداخلي ( الطائفية ) ولكن انشغال الدولة بفلسفتها القمعية واعتمادها على عناصر التمزيق الاجتماعي والطائفي عمق وعزز من الظاهرة ’ لهذا وجد المشروع الإصلاحي نفسه أمام معركة عميقة ’ وقد ساهم في فترة استقلالنا ولادة وتعزز ظاهرتين هما الطائفية والطائفية المضادة ’فازداد واقعنا بالسموم والكراهية ’ الأولى كانت من الضفة الإيرانية مع انتصار الثورة ’فوجدت الطائفة نفسها وبلا وعي تشعر بنوع من الطمأنينة الداخلية بانتصار المذهب على كل شيء وفي عالميته ’متجاوزا جغرافية الوطن والولاء ’ حيث كان الوطن منقسما والولاء غائبا ’ ولم يكن ذلك ما تملك شعور شيعة البحرين كلهم ’ وإنما لدى الشيعة في الجوار الإيراني كله ’ كالباكستان وأفغانستان والعراق والكويت وشرق المملكة العربية السعودية . بدت تلك الحقيقة واضحة في سنواتها الأولى خاصة مع فكرة تصدير الثورة ’ وان وجدناها تلبست بأقنعة أخرى فيما بعد ’عن طريق تزاوج فكرة دبلوماسية الدولة ومواصلة فكرة الاستنفار الثوري المتروك شأنه للحرس الثوري ’ أما الظاهرة الثانية فقد تعززت من ضفتين الوهابية وأفغانستان ’ حيث وجدت نفسها مستنفرة كعالم سني أمام قوتين جديدتين في المنطقة ’هما الغزو السوفيتي والغزو الإيراني الجديد ’ فكان الأب الروحي حاضرا في تحويل المخاوف وأولية الصراع ضد الخطر الشيوعي مستنفرا العالم الإسلامي دون تمييز ’ بينما في العمق كان ذلك التناقض ظاهرا فتم استنزاف إيران بحرب جانبية مع العراق ’ وتذكيرها في الوقت نفسه إن انتصار الدبابات السوفيتية في أفغانستان يعني قضمها بالكامل وهي في نضارة ثورتها ’حيث منابع النفط في الخليج كانت هي الهدف ’ و800 كيلومتر من كابل وتلك المنابع لا تعني شيئا في العمليات العسكرية الإستراتيجية ’مما دفع إيران للمساهمة مع اللواء الإسلامي في الحرب ضمن الأربعة عشر دولة ’ التي جندت في مواجهة الاتحاد السوفيتي ’ وليس المجاهدين الأفغان والمسلمين العزل وحدهم ’ فبدون حرب طويلة لا يسندها المال والسلاح وكل التسهيلات الأخرى لسفر المقاتلين ’ وإعلام موجه لم تكن العملية سهلة أبدا. ومع انسحاب السوفيت 1985 وانتهاء الحرب الإيرانية العراقية 1988’ رأينا كل المشاهد الطائفية كيف خرجت من مكامنها ’ وعاد الشيطان الأمريكي وحلفائه يلعب بأوراقه العرقية والطائفية ’ ووجدت الأنظمة نفسها مثل حطب الشطرنج بعد انهيار نظام صدام مهددة من كابوس الطائفية المدعومة ’ بوجهين إيراني وأمريكي وعربي ’ غير أن الطائفة الواعية أدركت أنها تحل مشكلتها الداخلية وحدها ’ دون تهميشها وطنيا ’ وهي ترفض الانصياع خلف الأجنبي . ذلك الولاء الحقيقي للوطن ينبغي أن يتعزز بالولاء لنظام الحكم وشرعيته الدستورية ’ ولكنه الولاء يبقى مشروطا بالحقوق والشراكة في مواطنة حقيقية وحياة أفضل . فكيف ننجح في الانتقال في عهد الإصلاح من تجذر شعور الغبن لماض طويل إلى شعور الاستقرار في وطن يقدم عدلا لكل أبنائه ’لكي تصبح المواطنة لها معنى حيا يفعّل مواد الميثاق ودستورنا الصامت .
هل لدينا أعداء خارجيين
لا يجوز دفن رؤوسنا بنهج نعامة دبلوماسية ونجيب نفيا ’ لا يوجد ذلك العدو الخارجي المحتمل ’ وقد كان تقلبات ومزاج صدام العقائدي درسا قوميا مؤلما ’ فهل يستقر شعور الأمان في بلدان مجلس التعاون من تزايد التسلح الإيراني ’ وتلويحه عبر قنوات أخرى تمثل واجهته بالتهديد مستخدما المنطق القديم / الجديد في حقوقه التاريخية . هذا الخوف الكامن يجد له مرتعا لدى من تملكتهم نعرة الطائفية في الداخل ’وتعززت لدى مجموعات أخرى كلما شعرت بالتمييز المستمر دون معنى . فكيف ننجح في قطع الجسور الداخلية مع حالة المخاوف الخارجية من وجود عدو خارجي ؟ قصائد الولاء المستباحة لحظتها غير مجدية ولا أقنعة المسرح تصبح ذات معنى ’ ففي لحظات الحرب والغزو تتكشف المرجعيات وتنهار قيم الولاء ’بل وتصبح لحظتها نمط من الصراع بين ولاء حقيقي وولاء مصطنع . لا نود أن نمر بامتحان الغزو كما حدث للكويت الشقيق ولا نتمنى من جارنا إيران أن تخطو خطوة متهورة ضد أي بلد مجاور بحجة الانتقام لنفسها مع حربها المحتملة من عدو أخر ’ فمن لا يستطيع ضرب الحمار يفرغ ضربه في البردعة أو كما نقول في ( العدة ) . بين منطق العدو المحتمل والممكن ومنطق العدو المتخيل ’ تتحرك في الدبلوماسية الواقعية كل الخيارات الممكنة ولا تجدي في السياسة صلوات الغفران حينها .
تجذير الطائفية أم اجتثاثها
لن يحقق هذا الحوار الوطني بعصا سحرية الحل العاجل في اجتثاث الطائفية كنزعة ونعرة سياسية ’ ولكنه بالتأكيد انعقد من اجل نزع فتيلها المتقد وإطفاء كل مكونات الحريق ’ ولكن الأبعد في إستراتيجية هذا الحوار يتمنى اجتثاث تلك النزعة وليس ترك الفتنة نائمة ثم نلعن من أيقظها ’ وإنما بالتركيز على مسألة المواطنة كعنوان جوهري لوحدتنا الوطنية ’ وسيترك المتحاورين بعد الانتهاء من نقاشهم المثمر نواياهم ورغباتهم وتوصياتهم كرؤية وطنية بضرورة الوحدة الوطنية وتماسك نسيجها الاجتماعي ’ وبسد كل منافذ الحقد والكراهية والتمييز بين طوائف وأعراق شعبنا . بين خيار التجذير وبقائه وامتداداته التاريخية وبين رغبة الحل الفعلي لاجتثاث الطائفية ’فان قطبي المعادلة يتحركان معا وبصورتين متعاكستين ’فكلما عمقنا وحدتنا الوطنية تراجعت بالضرورة كل أشكال التمزيق وأسلحة التفكيك المستخدمة ’والمداخل لها من أعداء هذه الوحدة في جماعات تتمترس خلف الطائفة ’ وتؤجج الصراعات وتقلب التناقضات ’ وتجعل كل أولوياتها الدفاع عن الطائفة متمظهرة بالوطنية تارة وبحقوق الإنسان تارة أخرى ’ دون أن تدرك أن وحدة الشعب الحقيقية هي ما ترتكز عليه من نضالات موحدة ومشتركة تضع خيار الوطن والشعب ومصالحهما فوق الجميع ’ فكل ما يتم انتزاعه من حقوق ومطالب عادلة بالنتيجة انجاز لوحدة هذا الشعب وطوائفه دون تمييز . وعلى قوى المجتمع المدني أن تضع في حوارها ’ إن مستقبل الدولة والمجتمع مرهون تقدمه بتلك الشراكة ووحدة الطرفين ’ دون الحاجة لرؤية الشعب من منظور قبلي أو طائفي ’ فتلك الاتكاءت العرجاء على مسيرة التقدم لا تخلق دولة حديثة متطورة ’ وإنما دولة هشة بكيان طائفي وقبلي في الوقت ذاته . علينا جميعا الترفع عن هذا المنظور العدائي للشعب ومكوناته ’ والعودة إلى أسس الدولة الصحيحة التي تحقق للشعوب ازدهارا وتقدما ’ وتكتسب شرعيتها من أسس دستورية تتضمن عدم التمييز بين المواطنين مهما اختلفت أديانهم ومللهم . لذا ينبغي على المتحاورين أن لا يتركوا خلفهم الأوراق الميتة تتطاير في الهواء ’ليعودوا في حوار وطني ثالث ’ دون أن يقيسوا خطواتهم بين كل فترة وأخرى ’وهل حقق الحوار أهدافه وأمنياته ولو خطوات قليلة للأمام ’ فعلى الأقل يدرس المؤتمر الوطني الثاني انجاز ولو جزء ضئيل من الحلم في اجتثاث الطائفية .
على من نراهن في التغيير ؟
لا بد لكل مشروع تاريخي طموح بحجم الوحدة الوطنية ومكافحة الطائفية ’وغيرها من ظواهر التعطيل والعرقلة لمشروع الإصلاح ’ وأن يمتلك المشروع أدوات واضحة وقوى فاعلة وحية تؤمن بضرورة التغيير ’مواجهة الخصوم الذين يناصرون الطائفية ويغذون الشعب بسمومها ’ وفي الوقت ذاته يمزقون نسيجنا الوطني بسكاكينهم الحادة البغيضة في السر والعلانية . إن دعاة وحملة هذا المشروع الوطني لا بد وإنهم أولا أن يكونوا فعلا ’يضعون الوطن أمامهم في قمة المصالح العليا . ومثل هؤلاء بوصلتهم الوطنية تدرك هدفها ومرفأها الحقيقي ’ وتدرك أنها لكي تنجز هذا المشروع الهام أن تستعين بكل قوى التنوير الوطني والتقدم الاجتماعي ’معتمدة على طبقات وشرائح توحدها مكونات طائفية مشتركة لكي تقدم نفسها نموذجا حيا لتلك الوحدة ’ وتصبح طبقتنا العاملة نموذجا حيويا لذلك ’ وهي قادرة على جمع شرائح من المجتمع المدني ومنظماته المهنية والسياسية والنقابية والطلابية والنسوية والشبابية ’ وكل من يرى نفسه نصيرا حقيقيا للمشروع الوطني ’من رجال الأعمال والدين والثقافة ’ حيث من الضروري أن تقود تلك العملية جبهة واسعة يهمها وحدتنا الوطنية واستكمال تحقيق المشروع الإصلاحي ’الذي دعا لمناهضة الطائفية كخطر يمزق الشعب والوطن . إن بناء جبهة عريضة تتضمن كل المكونات المجتمعية ضرورة تاريخية ’ لتحقيق وحدتنا الوطنية المنشودة ’وهي أهم سلاح في توافقنا الاجتماعي والسياسي ’مهما تنوعت واختلفت مشاربنا الفكرية والطبقية والسياسية.
الدين والطائفة والدولة
تعترض حوارنا الوطني قضايا مفصلية لتخطي إشكالية التناقضات القائمة في جسد المجتمع ونسيجه ’سوى من حيث بعده التاريخي أو الآني أو المستقبلي’ ولكي يصبح الحوار ناجزا ومؤثرا في عملية تماسك الوحدة الوطنية وتقطيع جذور وعوامل مكونات الطائفية ونزعتها ولو من منظورها القريب ’ ومن جهة أخرى الحفاظ على كل جوانب الحقوق المدنية والدينية لذلك النسيج ’ إذ لا يمنع تطور المجتمع تدريجيا في بنيته الطائفية والقبلية نحو الدولة الحديثة الدستورية ’إلا بشروطها التخلي عن استخدام وتوظيف تلك النعرات من اجل ديمومتها ’لشعورها أن ذلك يحقق لها الهيمنة على السلطة دون الاعتماد على شرعية وحدة الشعب والدستور ’ اللذان ينبغيان أن يكونا هما المرجعية الفعلية للجميع ’ ولن ينجز ذلك إلا بتنفيذ وتفعيل تلك المرتكزات الأساسية فيه ’ من حريات وحقوق وسلطات فاعلة وعادلة . لكي لا ندخل في دهاليز الصراع القبلي والطائفي ودولة مشوهة الكيان ’ حيث نراها مشدودة لذهنية الماضي ’ بينما تيار التغيير وقوة التفاعلات العالمية تقتضي الانخراط أكثر نحو دولة محددة الكيان والحداثة ’ مستكملة شروط وشكل تفاصيلها الدستورية ’ في وضع مؤقت مقبول ومستقبل يسعى الجميع لاستكماله معا’ إذ برهنت الحقبة السابقة ’إن ذلك النموذج الاستبدادي المتكئ على عنوان القوة والكبت ومراسيم التسلط ’ لم تقد وتدخل البحرين إلا نحو التوترات والتنمية البطيئة المتشحة بالفساد . ولكي يكون مشروع الإصلاح الذي جاء به عاهل البلاد فاعلا ’ عليه / ممثلة بالدولة وعلينا ممثلة بالمجتمع المدني ’المساهمة في نسج توافق مشترك لنوعية ذلك المستقبل والدولة العصرية ’ التي من ضروراتها الأساسية إعطاء كل النسيج حقوقه وإبعاد الطائفة والدين عن التعامل مع السياسة من منظورهما الضيق ’ الديني والطائفي ’ بحيث لا يمكن أن تستقيم دولة حديثة تدير المجتمع والدولة بذهنية طائفية وسلطة دينية ’ فذلك يدخل فكر الدولة ونهجها السياسي إلى تناقضات متضاربة ’ في كيفية وطبيعة سلطة الشعب ووحدته السياسية والاجتماعية والحقوقية . الإسلام حقيقة في أوال والطوائف حقيقة بحرينية كذلك ’وهما حقيقتان تاريخيتان ترسخت جذورهما في تربة البحرين منذ نشوء الإسلام ’ ولكن الدولة العصرية والطبقات الاجتماعية والعلاقات الدولية وتعقيدات فكر الدولة والحقوق المدنية وبرامج التنمية المستدامة وغيرها من حراكية دائمة داخلية وخارجية ’هي جزء من معطيات الحياة الإنسانية وعناصرها الحضارية المتفاعلة ’ وهي ضرورة من ضرورة التغيير ولا يمكن إقحام التاريخي بالديني بالسياسي بصورة ميكانيكية ’ تدخلنا في الصدام الأهلي ’ ما لم نكن قد استوعبنا تلك الحقيقة ’ وبأن تجارب الدولة الدينية لا يمكن أن تستمر في عصرنا ’ فهي في نهاية الطريق تدخل نفسها في تعرجات العصر ’ وترى نفسها مجبرة على التنازل يوما اثر يوم ’ حتى وان احتفظت بقيافتها ومظهرها الخارجي ’ وحاولت تفسير الأمور الدينية بمرونة ’ إذ هناك ثوابت دينية لا تقبل التغيير بينما الدولة فكرها السياسي ومجتمعها المدني مبنيا على أساس مبدأ التحول المستمر وبأن قانون الصراع الاجتماعي احد محركاته الأساسية .
الثقافة الوطنية صمام الأمان
لن ينجح أي مشروع إصلاحي وطني لتذويب الحساسية التاريخية والاجتماعية بين السكان بطوائفهم وأعراقهم وثقافاتهم المتباينة ’إلا بالتوافق على حل سؤال هام وهو ما هي ثقافتنا الوطنية المشتركة ؟ التي ينبغي زرعها في نفسية وذهنية أطفال الوطن ؟ كيف نغربل برنامجنا الثقافي الوطني القائم على المزيج والتنوع المشترك دون خوف من الشعور بطغيان الأخر ’ فالمهم هو المستقبل الذي يقدم نوعية جديدة من الثقافة المشتركة التي ستحدد ملامح الأجيال القادمة ’ والتي نراها مجسدة بلا وعي مفروض في تداخل فنوننا ومزاجنا في الملبس والطعام ’ وغيره من التنوعات ’ التي بهذا القدر أو ذاك تفرض نفسها بصورة طبيعية ’ دون حاجة لممارسة الهيمنة الثقافية وتسلطها الفوقي ’ خشية من ذوبانها وضياعها في تيار ’’ تتوهم ’’ انه سيجرفها بقوته ’ متناسية أن المساواة وحدها تخلق روحا جديدة ’ والتمييز والتسلط يدخلنا في دائرة الانغلاق عن الأخر والخوف منه وكراهيته بصمت ’ لكونه يمارس التهميش والقسر الثقافي . ولن تكون أفضل لثقافتنا الوطنية ’ من مناهج المرحلة المدرسية الأولى إلى أعلى درجة في الجامعة ’ كما أن التداخل السكاني لكل مشروع ووحدة سكانية تؤسس على التداخل دون النظر بروح النسبة والحصص ’ وإنما بأهمية توزيع عادل لحقوق المواطنة ’ فمن كان رقمه أقدم من حقه أن يحصل على حقه دون مماطلة ’ كما أن ممارسة مواصلة بناء المشاريع بروح فئوية وطائفية وقبلية ’ لا يجوز تكريسها وتعميقها بإرادة ووعي يسهم بسياسة التفتيت والتقسيم والتمايز ’ وبدلا من أن نطوق فكرة التطويف والنزعة القبلية ’ نسعى إلى دولة الطوائف اعتقادا منا على أنها طوقنا وحصننا المنيع ’ في مواجهة المشاكل الاجتماعية والسياسية الناجمة عن صراع أعمق في مظاهره البنيوية .
موت المعجزة في عالم لا يؤمن بالمستحيل
انتهى زمن المعجزات ’ وبان القدرة الإنسانية والمعرفة قادرة على معالجة شتى أنواع الظواهر ’ والتي من المهم أن نضع لبنات وأسس صحيحة لحلها ’ ولن تكون البحرين بلدا أعمق واعقد في نسيجه الاجتماعي والديني عن بلد بحجم الهند والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ’ ومع ذلك تخطوا كل ما يمكن أن يخلق شعورا بضياع الهوية الحقيقية للمواطن الأمريكي والهندي والأوروبي ’ وهو ضمن هويات عدة من السهل تصفيفها وفرزها على الأساس الحقوقي للفرد والجماعة ’ بحيث لا تتصادم تلك الهويات المتعددة في مصالحها وطبيعتها ’ بقدر ما برهن إن التنوع والثراء الثقافي يضيف قيمة وقوة لتلك البلدان . وليس بالضرورة أن نخلق نموذجا مثاليا في فترة قياسية ’ ولكن بالإمكان أن نبني نسيجا اجتماعيا منسجما تحت ظروف وشروط شرعية وقانونية ’ تكفل للشعب حقوقه العادلة ’ والتي قبلت الدولة والمجتمع بالتوازن والاتفاق عليهما ’دون الحاجة للعيش بروح الشك والكراهية والتمييز الإنساني بين السكان والمواطنين . المهم أن نؤسس للروح الجديدة للوطن والشعب المتحد المتماسك المستقر ’ وبأن لا شيء مستحيل حله ’ طالما هناك إرادة جماعية ترغب في العيش المشترك وتحترم الأمن الاجتماعي والسلم الأهلي كقيمتين ومفهومين أساسين لوحدتنا الوطنية .
10/ مارس /2008