المنشور

مجيـد.. المثـقـل بالمـوسـيقى والحـديـد


يناديني أهلي وأصدقائي « أبومجيد »، ولقد ولد مجيد في 17 سبتمبر/ أيلول 1975  ، وكان ذلك بعد أقل من شهر على حل المجلس الوطني (البرلمان) في البحرين ودخول البلاد نفق قانون أمن الدولة المظلم الذي لم تخرج منه البحرين إلا مع نهاية القرن الماضي وبداية المشروع الإصلاحي.
كنت على اعتقاد بأن القادم بنت، وجهزت « لها » اسم « أمل »، أمل الخروج من ذلك النفق. أما وقد جاء ولداً فقد استنفرت على الفور كل جوارحي لأهبه اسماً ذا مغزى. وقد يبدو الاسم عادياً تماماً ما لم يفكك. فهو، كما تقول الإعلانات الدعائية، ثلاثة في واحد.
 لقد نسبته إلى ثلاثة من أعز أصدقائي، اسم كل منهم مجيد: رجل الأعمال والشخصية الاجتماعية الوجيه مجيد الزيرة، صديق مقاعد الدراسة الثانوية والعمر كله. مجيد ملا حسن البلوشي، زميل الدراسة الجامعية، دكتور في العلوم الزراعية، وهو اليوم عاشق للعلوم الفلسفية وضالع فيها، يدعوك ويغريك أو حتى يستفزك للدخول معه في جدل عميق يغتني منه الاثنان. أما الثالث فهو بطل موضوعنا اليوم، وبطل البحرين أبداً، الموسيقار الكبير مجيد مرهون. 
مساء الأحد الماضي، 16 مارس/ آذار، وفي مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث تم تدشين القاموس الموسيقي الذي بدأ مجيد العمل عليه في السجن منذ العام 1975 وعكف على إنجازه نهائياً بعد خروجه وحتى العام 2002. وبعد محاولات لم تنجح مع مؤسسات عدة إما بسبب كُلفه أو لعدم إدراك قيمته، أعربت الشيخة مي الخليفة عن استعدادها لتبني المشروع الذي خرج في تسعة مجلدات تعتبر إضافة نوعية مهمة للمكتبة الموسيقية العربية.
 أعرف أن كثيرين في بلادنا العربية لا يعرفون مجيد مرهون. برلين، ستوكهولم، موسكو، لندن وغيرها من العواصم الأوروبية، وكذلك القاهرة عرفته قبل أن تعرفه العرب. ذلك أن بلاده ذاتها لم تعترف به إنساناً موهوباً إلا في وقت متأخر جداً. وأنى لحكم الاستعمار البريطاني أن يرى في قول الكاتب الروسي ليونيد أندرييف (1871- 1919) وكأنه يتحدث عن مجيد مرهون «في الحياة كثير من العتمة، وكم هي بحاجة إلى أناس موهوبين ينيرون طريقها. إنه ليجب الحفاظ على كل واحد من هؤلاء كأفضل قطعة ألماس».
 وقد حافظ حكم الاستعمار البريطاني على «ألماستنا» الثمينة 23 عاماً، لكن في السجن الذي دخله منذ العام    1969  ، وهي أطول فترة قضاها سجين بحريني، ليخرج حاملاً لقب «مانديلا البحرين».
 قصة مجيد مرهون بدأت منذ نشأته وقد عكستها كتابات كثيرة. لكن قصته الأسطورية بدأت قبيل انتفاضة مارس/ آذار 1965.  عرفته في صيف العام 1964 في بلد عربي وكلانا في قرابة السادسة عشرة من العمر. لم نكن نعرف أننا أبناء حزب واحد جئنا لأداء مهمة واحدة مع مجموعة من الشباب. كان مجيد دائم المرح خلال شهرين من أداء المهمة الصعبة. ولعله كان يرى فيها نزهة قبالة ما ينتظره في البحرين.
 مارس/ آذار 1965 كان عام الانتفاضة الكبرى التي استخدم فيها الشعب كل أشكال النضال بما فيها المسلح ضد الاستعمار البريطاني، والذي يعتبره العالم نضالاً مشروعاً في مواجهة الاحتلال الأجنبي. أدرك المستعمرون أن هذه الانتفاضة وضعت بكل جدية مسألة استقلال البحرين على جدول الأعمال. لذلك تعاملوا معها بكل وحشية. وبعد أن أخمدت واصل الحكم الاستعماري تنكيلاً بمن شاركوا فيها، وحتى بكثيرين ممن لم يشاركوا. لم يكن أمام شعبنا إلا التخلص من رأسي جهاز التنكيل الأجنبيين وإزاحتهما. وكان مجيد لإحدى المهمتين اللتين نفذتا في الذكرى الأولى للانتفاضة. وبعدها دخل السجن. وهناك تفرغت الأنامل التي فعلت ما فعلت لأعمال غاية في الحس الرهيف – الموسيقى. ولعل مجيد لا يتفق فكرياً مع الكاتب الروسي ألكسندر بلوك (1880 – 1921)، لكنه ربما رأى فيما قاله من أن «الموسيقى وحدها القادرة على وقف حالات سفك الدماء التي تصبح عملاً مبتذلاً وكئيباً» تعبيراً عن اعتكافه في محراب الموسيقى وإبداعاته. غير أن مجيد ظل فخوراً بكل ما قام به وصار مدرسة لأجيال مرت به في السجن وتعلمت منه الموسيقى والنضال الوطني معاً. ومن السجن تسربت موسيقاه التي حملها رفاقه إلى العالم لتلعبها فرقة الإذاعة في ألمانيا الديمقراطية وليدرسها مختصون في الأكاديمية الملكية في السويد. ومن على أسطوانات بلاستيكية رقيقة طبعت في ألمانيا صدحت مقطوعات من موسيقى مجيد مرهون في مهرجانات الشبيبة والطلبة العالمية، ومنها إلى بلدان العالم المختلفة.
 ذات صيف في الثمانينات قصصت على الأستاذة فريدة النقاش ونحن في بلغاريا حكاية مجيد التي أبكتها. ولما عادت إلى مصر سعت لدى رفاقها في حزب التجمع ليقام مهرجان حاشد عزفت فيه «أزميرالدا» و«نستالجيا» وغيرها من مؤلفات مجيد مرهون القابع في السجن.
 لقد آمن مجيد بأن أعماله الموسيقية ونضاله الوطني وجهان لرسالته الإنسانية. وفي الأولى قرع الأجراس ليوقظ فينا الثانية. ألم تقل الكاتبة الفرنسية أفرورا لوسي ديوبين (1804-1876) التي أخفت كل نتاجها الأدبي خلف الاسم الذكوري جورج ساند، إن «هدف الموسيقى هو إيقاظ القلق الروحي. وليس ثمة فن آخر قادر على تحريك مشاعر نبيلة في قلب الإنسان، وعلى تصوير جمال الطبيعة أمام عيون الروح، وروعة التأمل والتنوع الذاتي لدى الشعوب وعنفوان طموحاتها وثقل همومها بقدر ما تفعله الموسيقى».
 مساء 16 ديسمبر/ كانون الأول وفي يوم تدشين قاموسه الموسيقي لم ينفخ عازف السكسفون في آلته. لم تسمح بذلك صحته المتردية التي أهملها سجانوه والدولة وحتى رفاق الدرب. لكن الحاضرين استمعوا إلى موسيقى مجيد التي عزفها فنانون من الغرب والشرق في ذلك المساء. لقد فعلت فينا موسيقى مجيد ذلك السحر الذي تحدثت عنه جورج ساند.
 أحد النقاد الموسيقيين الذي درس مؤلفات مجيد قال إنه يسمع في ثنايا موسيقاه رنين سلاسل حديدية لعلها القيود المضروبة حول رجليه وتصدر أصواتها عندما يمشي مثقلاً بها.


فسلام عليك مجيد.. مثقلاً بالموسيقى والحديد.

 
صحيفة الوقت
24 مارس 2008