ينطلق البعض من ملاحظة جوهرية جديرة بالمعاينة، هي فقدان الشبيبة حماستها للأفكار الكبرى، مما يدفعنا للتساؤل عما إذا كانت لذلك علاقة بمفاعيل التقدم التقني، الذي يقال إنه يشوّه طبيعة الثقافة تفتيتاً وتمزيقاً. لذا يأتي الإلحاح على محورية الوعي بالتاريخ، لأن الإنسان في هذا العصر، والمحروم من تاريخه، صار طريدة سهلة لكل أشكال القهر، وأخذ يتخلى عن ثقافته ببطء. وأمر لافت للانتباه أن مجتمعات ديمقراطية عريقة تجد من الضروري التوكيد على الثقافة بوصفها شرطاً من شروط التطور الديمقراطي، وبصفتها بديلاً عن ضغط الإرهاصات المختلفة، التي يتعرض لها الإنسان في عالم ينزع فيه كل شيء ليكون مادياً واستهلاكياً، لتبدو هذه الثقافة فهماً يستوجب مجهوداً إبداعياً وفكرياً يمكنه وحده أن يعيد للإنسانية رسالاتها النبيلة. البشرية بحاجة إلى علماء كما هي بحاجة إلى رسامين وشعراء وموسيقيين، لذا يتعين النظر إلى الثقافة بوصفها قوة ضرورية للوقوف في وجه تنميط الإنسان وتجريده من عالمه الروحي، وإعادة شروط تطوره الحر إليه. منذ نحو عقدين، حين بدا أن الأمر قد استتب لأحادية القطب في العلاقات الدولية، راجت الكتب والنظريات والفلسفات التي تروج لنهاية التاريخ بالانتصار المبين لليبرالية الغربية، التي قيل يومها إنها قد هزمت الأنظمة الشمولية. ترافق ذلك مع سعي ممنهج للبرهان على لا جدوى الثقافة والمعرفة والوعي بالتاريخ، وجرى الإعلاء من القيم المادية والاستهلاكية، وتقديمها على أنها وسيلة العيش وغايته أيضا، وما سوى ذلك فليس سوى ترهات ينشغل بها المثقفون الذين لا مهنة لهم سوى التنظير. وإذا كان رواج هذه النظريات في الغرب مفهوماً، حيث أنجزت الحداثة، ولم يعد الحديث يدور عما بعد الحداثة، وإنما أيضاً عن “ما بعد ما بعد الحداثة”، في ما يشبه رد الاعتبار لقيم جرى التنازل عنها، فإن التكرار الببغائي لهذه المقولات في عالمنا العربي يبدو أشبه بالأضحوكة، في أوطان مازالت نسبة الأمية تصل في بعضها إلى نسبة ثمانين في المائة، وما زالت أجزاء من أراضيها تحت الاحتلال، فيما الفكر العربي لا يتراجع عن أطروحات طه حسين مثلاً، وإنما عن مقولات محمد عبده وجمال الدين الأفغاني والكواكبي وسواهم من رواد الفكر النهضوي والتجديد الديني.
صحيفة الايام
23 مارس 2008