المنشور

بعد رحيل زعيمة حزب الشعب

غمرت الشارع الباكستاني‮ ‬فرحة عارمة بانتصار أحزاب المعارضة ضد أحزاب الموالاة للرئيس مشرف،‮ ‬وبدت رقصات الشعب من جمهور حزب الشعب تعبيرا عن رد فعل قوي‮ ‬أصابها قبل شهرين من فقدان زعيمة الحزب التاريخية التي‮ ‬ورثت قيادته من ارث والدها،‮ ‬وعلى الرغم من مقولة إن أسوأ ما في‮ ‬الذاكرة أنها سريعة النسيان فقد كان الفرح بالانتصار برهانا على انه فوق الحزن؛ فورود الجنازة وجثمان بنازير بوتو وقبرها وسر الاختلاف حول اغتيالها‮ ‬يبقى موضوعا لم تحسم ألغازه نهائيا،‮ ‬ومع ذلك كان على الحزب أن‮ ‬يقرر فورا بعد رحيل الزعيمة مقاربة سيناريوهات سياسية عدة،‮ ‬وكعادة كل من‮ ‬يلعب في‮ ‬دهاليزها‮. ‬ماذا‮ ‬يفعل الحزب حول الانتخابات القريبة القادمة؟ وما فائدة الانسحاب للحزب من المعركة الانتخابية؟ هل‮ ‬يترك الساحة للآخرين الموالين لمشرف،‮ ‬وينسحب مفضلا المقاطعة أم‮ ‬يدخل المعترك استكمالا لمسيرة بوتو التي‮ ‬دخلت بقوة قبل موتها،‮ ‬حملتها الانتخابية فكانت الساحات وملاعب الكرة تكتظ بالجماهير الغفيرة القادمة من ضواحي‮ ‬المدن الرئيسية التي‮ ‬أقامت فيها احتفالاتها وتعبئتها الانتخابية،‮ ‬فكانت صوتا مدويا للمؤسسات الصامتة والمختنقة في‮ ‬باكستان المسلوبة من الداخل بالفساد والجريمة السياسية،‮ ‬ودسائس لا تحصى خلقت في‮ ‬البلاد شرخا عميقا بين الشعب ونسيجه الاجتماعي؛ فجاء صوت بنازير واضحا،‮ ‬وهي‮ ‬تومئ للجهات الحقيقية المسؤولة عن المسرحيات الخفية التي‮ ‬حيكت لسنوات؛ فزرعت مشاكل تعدت ظاهرة الإرهاب وجذوره الحقيقية،‮ ‬بل وعجزت كيف تتعامل مع المعضلات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية إزاء توزيع الثروة العادل بين أقاليمها المختلفة؛ فأسست على ضوء تلك السياسات مجتمعاً‮ ‬قائماً‮ ‬على خيارات العنف،‮ ‬وصراعات مستمرة بين الدولة المركزية المحمية بمؤسسة الجيش والأمن والأجهزة الفاسدة في‮ ‬مواجهة الشعب والمعارضة،‮ ‬وأخفقت سلطة القوة والقمع في‮ ‬بناء جسر من الحوار والتوافق بين القبائل والأطراف البعيدة والدولة البيروقراطية الفاسدة‮.‬ ‬كان واضحا من تصريحات وخطب وبرنامج بنازير السياسي‮ ‬حال تقلدها الحكم الشروع في‮ ‬المحاسبة والتطهير لتلك المراكز المتنفذة،‮ ‬غير أنها لم تستطع انجاز مشروعها،‮ ‬لكن هذه الروح الصدامية كانت حاضرة عبر تحفيز جمهورها وحزبها في‮ ‬استكمال المشروع عن طريق التأكيد على ديمقراطية النهج السياسي‮ ‬في‮ ‬باكستان،‮ ‬وإبعادها عن أتون العنف الداخلي‮ ‬بين كافة طوائف وأعراق الشعب الباكستاني‮. ‬وبتلك الإرادة السياسية المفعمة برغبة الانتصار ظلت أيقونة بنازير مضيئة وعنصر دفع قوي‮ ‬يلوح في‮ ‬الأفق،‮ ‬وتدفع بالناس معلنة عن ضرورة رحيل مشرف ومؤسساته عن السلطة دون الحاجة لإسالة مزيد من الدماء؛ فخيار باكستان هو الديمقراطية،‮ ‬واحترام سيادة القانون والدستور،‮ ‬ولهذا لم‮ ‬يفاجأ العالم الداخلي‮ ‬والخارجي‮ ‬بمدى عزلة مشرف خاصة في‮ ‬ظل وجود معارضة اكبر حزبين‮ ‬يقفان سدا منيعا أمامه؛ فجاءت حصة حزب الرابطة الإسلامية بقيادة نواز شريف في‮ ‬المرتبة الثانية من مقاعد البرلمان،‮ ‬واستولى الحزبان على ثلثي‮ ‬المقاعد التي‮ ‬تؤهلهما لاختيار الحكومة وتحديدها بما فيها صلاحية رئيس الجمهورية‮. ‬وبتلك الضربة القاصمة التي‮ ‬حققها الحليفان الجديدان؛ فان تشكيل ائتلاف قادم‮ ‬يجعل وضع مشرف عند حافة الهاوية السياسية حتى وان أعلن عن رغبته بأنه‮ ‬يود مواصلة رئاسته وقيادة البلاد من اجل محاربة الإرهاب،‮ ‬وتكريس الديمقراطية والحرية والتنمية وازدهار باكستان الاقتصادي‮ ‬في‮ ‬وقت تتعالى الأصوات من داخل المعارضة بضرورة التنحي‮.‬ ‮ ‬وكأول خطوة للائتلاف بين حزب الشعب والرابطة الإسلامية تم تحديد المهمات المباشرة وان بدت ملامح الرؤى والاختلافات المتباينة كالموقف في‮ ‬كيفية التعاطي‮ ‬مع برويز مشرف ومن تاريخه السياسي‮ “‬خاصة وان للطرفين زرداري‮ ‬وشريف ثارات شخصية؛ فقد سجن الأول ثماني‮ ‬سنوات بتهمة الفساد والثاني‮ ‬اطاحه من الحكم بالانقلاب وسجنه ثم نفاه‮”. ‬وحول مسألة محاسبته أم عزله نهائيا بصورة تدريجية ضمن اتفاق داخلي‮ ‬في‮ ‬وقت لا‮ ‬يرى فيه نواز شريف ضرورة بمنحه فترة زمنية بتحويل السلطات والأجهزة الأكثر أهمية كالأمن والجيش والقضايا النووية‮.‬ ‮ ‬ويراهن مشرف على فترة تشكيل الائتلاف داخل البرلمان واللعب بالوقت بانتظار المساومة أو خلق ثغرة في‮ ‬داخل الائتلاف وزعزعة تماسكه،‮ ‬وعقد صفقات ممكنة مع طرفي‮ ‬الائتلاف،‮ ‬وان كان أساس وحدة الائتلاف قناعتهما بضرورة رحيل مشرف من السلطة كمبدأ مشترك فيما تبقى آلية رحيله مرهونة بتوازنات سياسية وقضايا عديدة،‮ ‬وهي‮ ‬لب الحوار الداخلي‮ ‬بين الحزبين‮. ‬ولا‮ ‬يبدو صعبا قبول مشرف بإعادة كبير القضاة كمطلب ملح للائتلاف،‮ ‬ولا توجد هناك مصاعب في‮ ‬قدرة الحزبين بالتنسيق مع حزب عوامي‮ ‬القومي‮ ‬في‮ ‬إقليم السند،‮ ‬وتلبية بعض من مطالبه العادلة فهو مثل‮ ‬غيره من الأحزاب طفح به الكيل من حكم مشرف الاتوقراطي‮ ‬المرتدي‮ ‬شكليا عباءة الديمقراطية وديكورها‮. ‬حصانان آخران‮ ‬يصعب امتطاؤهما كقوة خارجة عن إرادة برويز مشرف نفسه،‮ ‬ولا‮ ‬يمكن تليين ساعد هاتين القوتين الغليظتين من أجهزة الدولة بسهولة،‮ ‬وهما القوة العسكرية والأمنية اللتان تملكان خيار قرار مشرف في‮ ‬البقاء أو الرحيل والمساومة على رأسه مع الحزبين في‮ ‬هذه اللحظة التاريخية من الانعطاف لباكستان؛ فلتلك القوتان سلطتهما العليا اللتان تتحكمان في‮ ‬قرارات البلاد من خلف الكواليس،‮ ‬وتلعبان بورقة التسويات والتصفيات،‮ ‬وهو ما‮ ‬يجعل الطرفين المعارضة ومشرف‮ ‬يسعيان لمعرفة موقفهما الجديد بعد نتائج الانتخابات والى أين ستؤول باكستان القادمة لسلطات مدنية بالكامل ومجتمع مدني‮ ‬ديمقراطي‮ ‬بحريات واسعة،‮ ‬أم بدولة‮ ‬يحكم قبضتها الأمن والعسكر كلعبة متواصلة وحلقة لم‮ ‬يتم كسرها نهائيا،‮ ‬وهما طرفان لهما مصالح عميقة في‮ ‬عملية تقاسم السلطة ويلعبان بأوراق كثيرة في‮ ‬تاريخ باكستان الحديث‮. ‬ومن السابق لأوانه معرفة مدى تماسك التحالف الجديد داخل قبة البرلمان،‮ ‬حول قبول الطرفين بتوزيع الحقائب الوزارية،‮ ‬وان أعلن زرداري‮ ‬أن حزبه لا‮ ‬يتشبث بموقع رئيس الوزراء،‮ ‬وهو أهم وأعلى منصب في‮ ‬السلطة التنفيذية،‮ ‬ولكن‮ ‬يبدو أن حزب الشعب بذلك التنازل والتصريح العاجل‮ ‬يخطط لوزارتي‮ ‬الداخلية والدفاع اقتناعا منه بمدى أهمية تلك المؤسستين التاريخيتين في‮ ‬معرفة كل أسرار الدولة والملفات المدفونة؛ فمن خلال تلك الوزارتين‮ ‬يستطيع حزب الشعب البحث بملف اغتيال بوتو إذ أعلن و‮- ‬لا‮ ‬يزال‮- ‬دعوته وفدا من الأمم المتحدة التحقيق في‮ ‬تلك القضية‮.‬ ‬محنة مشرف الأخيرة ستكون فقدان حلفائه في‮ ‬الخارج،‮ ‬حينما‮ ‬يعلنون تأييدهم للوضع الجديد،‮ ‬والذين‮ ‬يتحركون وفق المصالح لا الصداقات‮. ‬
 
صحيفة الايام
23 مارس 2008