يوما الثامن والحادي والعشرين من شهر مارس هما (يوم المرأة العالمي ويوم عيد الأم)، اللذان تحتفل بهما الامم المتطورة والشعوب المناضلة، بقدر ما تحتفي بهما مؤسسات المجتمعات المدنية والجمعيات والاتحادات النسائية في كل مكان، ومنظمات حقوق الانسان، والمنابر الدولية وفي مقدمتها هيئة الامم المتحدة. وبحسب ما يمثله هذان اليومان العظيمان، مبدأ أمميا لأول حركة وطنية للمرأة، تمثلت تداعياتها في اضراب عاملات النسيج بنيويورك في 8 مارس عام 1875م، بقيادة المناضلتين (اليزابيث ستانتون ولوكريشياموت)، إذ عبرت حقائق ذاك الاضراب المقدس، عن أولى انطلاقة مطالبات المرأة بحقوقها السياسية والاقتصادية والمدنية. وفعلا فان هذه المرأة (الأم والعاملة والمناضلة والمثقفة) أكدت نضالاتها ضد القهر السياسي والظلم الاجتماعي، وضد الافكار الرجولية والذكورية المهيمنة على المرأة، وفي مواجهة الافكار الدينية المتجسدة في أجندة خطاب تيار الاسلام السياسي الذي طالب دائما ويطالب المرأة بالعودة الى المنزل، محاولا فرض وصاياه الاسلامية على المرأة والمجتمع بحواجز من التخلف والتغييب والدونية والتهميش.. مثلما ناضلت هذه المرأة، وخاصة العربية، ضد الانظمة الرسمية الابوية، والقائمة على السلطة الاستبدادية البطريركية في تسلسلها الهرمي ابتداء من البيئة الاسرية والتربوية مرورا بالبيئة المجتمعية والاعلامية، وتواصلا بالبيئة الانتاجية، التي يظل فيها (الاضطهاد الذكوري للمرأة) هو الآخر مضطهدا أصلا من النظام الرسمي.. وعلى بالرغم من ذلك فان هذه المرأة قد انتزعت العديد من حقوقها الاسرية والمجتمعية والتربوية والاقتصادية، وخاصة منها السياسية.. بل حققت شيئا من أهدافها النبيلة، خلال نضالاتها من أجل الحرية والديمقراطية والتحرير والاستقلال الوطني. ولعل بمناسبة (يوم المرأة العالمي) في الثامن من مارس، ومناسبة (عيد الأم) في الحادي والعشرين من الشهر ذاته.. فان تضحيات هذه المرأة ونتاجات ابداعاتها ونضالاتها تظل مضيئة في وجدان الشعوب، بقدر ما هي ماثلة في ضمير التاريخ.. ومن هذا المنطلق، فاننا سنتناول المواقف البطولية والتضحيات الوطنية لإحدى المناضلات الفلسطينيات داخل الارض المحتلة (فلسطين الجريح).. وهي المناضلة (حليمة فريتخ)، التي أجرت معها قناة “الجزيرة” القطرية لقاء، عبر البرنامج الرائع (زيارة خاصة)، وبحسب ما جاء خلال حوار اللقاء الذي تم مؤخرا ما بين مقدم البرنامج والمناضلة الفلسطينية (حليمة فريتخ).. انها اعتقلت على أيادي المافيا الصهيونية في بداية عقد الثمانينيات من القرن الماضي، وكانت ذات الستة عشر ربيعا، على اثر عمليتها الوطنية “الجريئة” التي نفذتها، حينما ألقت بقنبلة مولوتوف على ثلة من الضباط الصهاينة.. وبحسب ما تروي المناضلة لمقدم برنامج (زيارة خاصة) “انها نفذت عمليتها بعد ان حدث على مرأى من عينيها وبملء مسامعها، ووطأة معاناتها، وأوزار أوجاعها، ان أفراد أسرتها بين قضبان سجون العدو يعذبون، وبين أروقة الزنازين وأقبية غرف التعذيب يستشهدون”.. حتى لحقت هي الاخرى (حليمة فريتخ) بأشقائها في أوساط تلك السجون المظلمة، وحكم عليها بالسجن مدة ستة أعوام.. بعد اخضاعها لأبشع التعذيب بجميع صوره الجسدية والنفسية والمعنوية. وبحسب ما تروي (حليمة فريتخ) عن معاناتها أثناء التعذيب قائلة: “ان الجلادين الصهاينة علقوها بعمود للكهرباء وانهالوا عليها بالضرب المبرح على مختلف أنحاء جسدها، وبالأخص منطقة الرأس، حتى فقدت وعيها.. ثم نقلوها الى غرفة التحقيق لمواصلة عملية التعذيب ورحلة العذاب والمكابدة”. ورغم ذلك كله كانت تواجه سجانيها وتجادل معذبيها، عندما اتهموها بالانتماء إلى تنظيمات الثورة الفلسطينية.. كانت أجوبتها في كل وقت “لم تنضم إلى تنظيم.. ولم تنتم الى أي تنظيم.. وان العملية الوطنية التي قامت بها، جاءت بمحض ارادتها وقناعاتها الذاتية.. جاءت رد فعل للاحتلال والاستيطان الصهيونيين. وعلى اعتقال أشقائها (خضر ومحمود وسليمان)، الذين هم جميعهم رزحوا تحت التعذيب بسجون العدو الصهيوني، حتى الاعاقة.. وحتى الاستشهاد.. شقيقها (خضر)، الذي ترسخت صورته في عقلها وعيونها – بحسب ما تروي المناضلة (حليمة فريتخ).. وشقيقها (محمود)، الذي استشهد في سجن الرملة.. ولكن ما قبل استشهاده، حاربوا أخته (حليمة فريتخ) بحرب نفسية شعواء”، وبحسب ما أوردته حليمة فريتخ خلال استضافتها في برنامج (زيارة خاصة) لقناة الجزيرة “ان ضابطة صهيونية جاءت لتخبرها ان أخاها محمود في سجن الرملة مريض وسيموت”.. وحينما نقلوها هناك لمقابلة أخيها (محمود)، الذي لم تشاهده منذ خمسة أعوام.. وبمجرد ان شاهدته وهو مقعد على كرسي متحرك.. أصيبت بالصدمة معلقة بحزن عميق.. لقد هالها تدهور صحته وسوء حالته.. ذاك الشاب النضر الوسيم بحسب ما وصفته أخته، لم تعرفه بسبب المرض الخبيث.. مرض السرطان الذي ألم بقدمه ليمتد فيشمل كامل الجسد” بحسب ما جاء على لسان مقدم البرنامج.. وبعد ذلك استشهد شقيقها المناضل (محمود) في 14 ابريل عام 1985م.. لكن ظلت كلماته الاخيرة، بحسب ما ذكرت اخته (حليمة) من خلال اللقاء الاخير يخاطبها قائلا “ديري بالك على صحتك” ماثلة في عقلها ووجدانها برسوخ.. مثلما واجهت ويلات سجون العدو الصهيوني بتجلي ارادتها وتوطيد عزيمتها.. وخاصة انها رزحت معظم فترة سجنها في الزنازين الانفرادية المرعبة. كانت المناضلة (حليمة فريتخ) تغالب آلامها وأمراضها ومعاناتها وأوجاعها، بإرادة المناضلين الصامدين، “وخاصة ان والديها قد ماتا حزنا وهمّا على استشهاد ابنيهما (محمود وخضر) في أقبية سجون العدو الصهيوني.. وسجن ابنتهما (حليمة) بين زنازينه المرعبة” بحسب ما يروي مقدم برنامج (زيارة خاصة) بشكل مؤثر.. ولكن المناضلة (حليمة فريتخ) حينما أنهت فترة سجنها في شهر مايو عام 1986م “ظلت شامخة الرأس والجبين، وحينما رفضت طلب الرحمة أمام قضاة المحكمة الجلادين” بحسب ما ذكره مقدم البرنامج.. وبحسب ما جاء على لسان المناضلة حليمة “لم أندم على ما فعلت”. ومثلما رزحت هذه المناضلة تحت وطأة ويلات السجن، فان مقدم برنامج زيارة خاصة قال متفاخرا بالمناضلة “انها أخذت تغالب أمراضها ومازالت الى الآن، جراء التعذيب في سجون العدو.. وهي غير قادرة على العلاج بسبب ضيق الحال”.. وعلى الرغم من ذلك كله فانها واصلت نضالاتها المقدسة خلال الانتفاضة الفلسطينية عام 1986م “وفضلت خيار البقاء والاقامة الجبرية من أجل الارض والوطن والحفاظ على الهوية على خيار السفر والحياة الزوجية أو اللحاق بالزوج الذي نجح في الهرب من ملاحقات العدو الصهيوني” بحسب ما جاء على لسان مقدم برنامج زيارة خاصة.. فتحية إكبار لهذه المرأة.. لهذه الانسانة.. لهذا المناضلة والسجينة (حليمة فريتخ) في يوم المرأة العالمي.. وفي عيد الأم.. وتحية إجلال للبطلة (حليمة فريتخ) التي افتقدت أخويها الشهيدين (محمود وخضر) داخل سجون العدو.. ووالديها خارج السجن.. وغياب شقيقها (سليمان)، الذي كان مسجونا من أجل القضية وخرج.. ليعود داخل السجن بحكم المؤبد.. وعلى الرغم من معاناة هذه المناضلة الفلسطينية (حليمة فريتخ) المؤرقة والمؤلمة والموجعة.. فإن طريقها النضالي لا يعرف اليأس، بقدر ما ظلت مرفوعة الرأس بشموخ حاملة لواء التضحيات الوطنية وراية النضالات الرائعة.
صحيفة اخبار الخليج
21 مارس 2008