منذ وقت طويل قبل شن الولايات المتحدة حربها على العراق حدد كثير من المتابعين أن أهدافها اقتصادية في الأساس. وفي الوقت الذي كانت المناقشات جارية في مجلس أمن الأمم المتحدة بشأن إمكان منع وقوع الحرب كانت واشنطن منهمكة في طرح المناقصات أمام الشركات الأميركية بشأن مشروعات إعادة إعمار عراق ما بعد الحرب. وقد تركزت العروض في مجال الصناعة النفطية التي تقادمت منشآتها كثيرا بسبب 12 عاما من الحصار الاقتصادي المحكم، وأصبحت تتطلب استثمارات ضخمة. كان واضحا أن الولايات المتحدة لن تتمكن من استعادة ما ينفق على الحرب في زمن قصير. لكن خطط واشنطن كانت تحمل طابعا استراتيجيا لوضع كامل المنطقة الغنية بالنفط تحت سيطرتها. فالمعطيات كانت تشير إلى أن هذا البلد لا يمتلك ثاني أكبر احتياطي للنفط بعد السعودية فقط، بل وإن هذه الاحتياطات تكفي لقرابة 130 سنة. وللمقارنة فإن احتياطات روسيا الهائلة من النفطي المثبتة حتى ذلك الوقت (قبل وضع يد روسيا على قاع بحر بارنيز في المنطقة القطبية الشمالية) لن تكفي لأكثر من عشرين عاما. ورغم أنه كان قد قدر لنفقات الحرب عشرات المليارات من الدولارات، إلا أنه في اليوم السادس فقط على بدئها تقدم الرئيس بوش للكونجرس الأميركي بطلب 75 مليار دولار إضافية.
لكن مراجعة لمسار تطور الأمور قبل أن تدخل الحرب عامها السادس يوم الأربعاء المقبل تؤهل السنوات الخمس الماضية لتحمل اسم ‘سنوات بغداد الضائعة’، وهو عنوان المقال المهم الذي كتبه توماس أفيناريوس الجمعة الماضية في صحيفة ‘زيوديتشه تسايتونغ’ (Süddeutsche Zeitung) البافارية الألمانية الشهيرة. لكنها أيضا صارت سنوات ضائعة وموجعة بالنسبة للمواطن الأميركي أيضا.
في منتصف أكتوبر الماضي تحدثت ‘الواشنطن بوست’ عن تقرير قدمه النواب الديمقراطيون في الكونجرس الأميركي بشأن ‘القيمة غير المنظورة للنفقات على حربي العراق وأفغانستان’ التي كلفت أميركا قرابة 5,1 ترليون دولار. وقد شملت ‘القيمة الخفية’ ارتفاع أسعار النفط التي ارتفعت حتى صدور التقرير أكثر من 3 أضعاف ما كانت عليه في مارس/ آذار 2003. كما شملت نفقات علاج جرحى الحرب وفوائد قروض تمويل الحروب. وهذا المبلغ يعادل ضعف مبلغ الـ 804 مليارات دولار من التي أنفقها البيت الأبيض وتلك التي يطلبها حتى نهاية العام 2008. وقال التقرير إن حربي العراق وأفغانستان قد كلفتا العائلة الأميركية الواحدة (بمتوسط إحصائي 4 أشخاص) 20 ألف دولار.
ولا يبدو أن لما لهتين الحربين من آثار سلبية على الاقتصاد الأميركي والأميركيين من نهاية. فالأمر لا يتعلق بالماضي فحسب. فقبل أيام فقط نشر الاقتصادي الأميركي المعروف والحائز على جائزة نوبل للاقتصاد جوزيف ستيجليتس ومساعدته ليندا بيلمس دراسة بحثا فيها سيناريوهات عدة لتطور حربي أفغانستان والعراق، أهمها ‘النموذج الأفضل’ و’الواقعي المعتدل’. وأفضت حساباتهما إلى أن السنة المقبلة، السادسة، من الحرب في العراق ستكلف الأميركيين 12 مليار دولار في الشهر. وهذا يفوق بثلاث مرات ما كانت تنفقه الإدارة الأميركية على الحرب في العراق منذ بدايتها. أكثر من ذلك بين ستيجليتس أنه حتى العام 2017 ستكلف حروب مكافحة الإرهاب في أفغانستان والعراق دافعي الضرائب الأميركيين قرابة 3 ترليون دولار. ولكم أن تتصوروا حجم هذا المبلغ الفلكي. فلو اعتبرناه مكونا من أوراق نقدية من فئة المئة دولار وصففناها فوق بعضها فستشكل عمودا غائصا في أعماق السماء بارتفاع 3300 كيلومترا، وعلى الأرض، يقول أفيناريوس، إن طولها يزيد على المسافة بين أقصى نقطتين في شمال وجنوب ألمانيا. أما لو صففناها على طول الشريط الساحلي لمملكة البحرين فستطوقه لأكثر من عشرين دورة!
وعندما تشير التقارير إلى أن عدد القتلى الأميركيين في العراق يقترب بسرعة من أربعة آلاف شخص (أنظر ‘الوقت’،(15-3-2008) فيمكن القول إنه بجميع المعاني العسكرية والمالية والبشرية أصبح جدوى الاستمرار في هذه الحرب موضع تساؤل الأميركيين ابتداء من المواطن العادي وانتهاء بالأدميرال وليم فالون، قائد القيادة المركزية للقوات الأميركية الذي قدم استقالته معلنا اختلافه مع الرئيس بوش ومع قائد القوات الأميركية في العراق الجنرال ديفيد بتريوس. وانطلاقا من التجربة الأميركية في العراق وقف فالون ضد نوايا شن الحرب على إيران.
والحقيقة أن المشكلة ليست فقط فيما إذا كان لدى أميركا خطط لضرب إيران في القريب العاجل، بل في أن واشنطن لا تنظر إلى العراق كمشكلة معزولة. فالأحداث في منطقة الشرق الأوسط من قطاع غزة مرورا بلبنان وحتى إيران وأفغانستان وباكستان تشكل عقدا مترابطة بشكل عضوي وقابلة للانفجار. وبالمقابل فإن كلا من خصوم الولايات المتحدة من دول أو تنظيمات قتالية، يعتبر بدوره المنطقة بكاملها ساحة مفتوحة للمواجهة مع أميركا، بما في ذلك على الساحة العراقية.
بكلمات أخرى المشكلة هي في أن جنرالات الحرب ضيعوا أموال الأميركيين منذ البداية ليس في الوجهة الصحيحة لحل الأزمة. فلقد كان يجب البدء بما يجري العمل به الآن بإعادة بناء الجيش العراقي بدلا من تسريحه، وكذلك الاستثمار في البنية التحتية ودعم المزارعين وصغار المنتجين ورجال الأعمال. بهذه المقاييس يمكننا اعتبار أن السنوات الخمس الماضية كانت ضائعة حقا. وإذا كانت أميركا قد فهمت الدرس وشرعت متأخرة في تصحيح هذا الوضع فهذا جيد بلا شك. لكن مجمل الاستراتيجية الأميركية ذاتها لا تفسح مجالا لهذا التدارك.
ويبين استبيان أجرته وكالة غالوب Gallup في الفترة بين 8 و10 فبراير/ شباط الماضي أن أكثر ما يقلق المواطنين العاديين هو قدرة رئيسهم القادم على معالجة المشاكل المرتبطة بالحرب في العراق والحلول الفعالة للمشكلات الاقتصادية المستفحلة. تصدرت هاتان القضيتان من بين 14 قضية، هي: الحرب في العراق، الوضع الاقتصادي، التعليم، فساد الحكومة، الصحة، الطاقة، الإرهاب، الضمان الاجتماعي، عجز الميزانية الأميركية، قضايا الأخلاق والقيم، السياسة الضريبية، البيئة والهجرة غير الشرعية.
صحيفة الوقت
17 مارس 2008