في اطار السعي لإطلاق حوار مجتمعي شامل جاد ومثمر حول أزمة الغلاء الراهنة في بلادنا والآخذة في التفاقم يوما بعد يوم عاصفة بحياة الفقراء وذوي الدخل المحدود بوجه خاص، وشرائح واسعة من الطبقات الوسطى بوجه عام، استعرضنا في الأسبوع الماضي نموذجين احدهما خليجي (الامارات)، والآخر غربي (فرنسا) من نماذج الجهود العربية والدولية على المستوى الرسمي لمكافحة غول الغلاء المستشري، أو على الادق للتخفيف من حدته. ومن اجل تفعيل وحفز هذه الجهود على المستوى الشعبي نيابيا وحزبيا ونقابيا ومدنيا بدلا من الانشغال في قضايا تافهة أو في احسن الاحوال بقضايا مهمة لكنها أقل أهمية من هذه القضية الآنية الملحة المصيرية، نتناول في هذا المقال تجربة الأردن في الجهود المبذولة لمكافحة الغلاء من خلال الأطر الشرعية والوسائل السلمية المشروعة كما نشرتها أغلب الصحف المحلية الاردنية في الأسابيع القليلة الماضية، أولا: الاعتصام الذي دعا اليه الملتقى الوطني للأحزاب الوطنية والنقابات المهنية في مجمع النقابات المهنية، حيث شارك فيه بضع مئات، ورفعت خلال هذا الاعتصام اللافتات والشعارات التي تندد برفع الأسعار وتطالب بالعودة عن ذلك. ثانيا: العريضة التي يزيد طولها على عشرين مترا وتحمل تواقيع آلاف المواطنين من مختلف المواقع السياسية والاجتماعية والمهنية، التي عرضتها حملة “لا لزيادة الأسعار” لمدة تقرب من خمس ساعات أمام مجلس النواب، والتي تطالب النواب بعدم الموافقة على زيادة الأسعار. ثالثا: الاعتصام الرمزي الذي نفذته احزاب المعارضة امام مقر جبهة العمل الاسلامي، وذلك للتعبير عن احتجاجها على الارتفاع المتوالي للأسعار، وخاصة اسعار السلع الضرورية. وأعلن الناطق باسم احزاب المعارضة أن رفع رواتب العاملين لا يشكل حلا لمعضلة ارتفاع الاسعار ولا يغطي الفروق الناتجة عن هذه الارتفاعات. وطالب الناطق باسم احزاب المعارضة بأن تنفذ الحكومة تعديلات جوهرية على قانون ضريبة الدخل، وذلك باتجاه زيادة ايرادات ضريبة الدخل وبشكل تصاعدي، وأن تقوم الحكومة باستيراد بعض السلع وتسعيرها ومراقبة الالتزام بالأسعار. رابعا: تنظيم العديد من الندوات التي جرت في مقار الأحزاب والمنظمات والتي صدر عنها عشرات البيانات والنداءات التي تطالب بالعودة عن خطوات رفع الاسعار وضرورة إعادة النظر في السياسة الاقتصادية. خامسا: الاضرابات والاعتصامات الواسعة التي نفذها آلاف السواق وأصحاب شركات النقل احتجاجا على رفع الاسعار. سادسا: التحركات الواسعة التي جرت في العديد من المحافظات، فقد اصدر الملتقى الوطني للأحزاب السياسية والفعاليات الشعبية والنقابات المهنية في محافظة الكرك بيانا يدعو فيه الجماهير للمشاركة في خيمة الاعتصام المفتوح في قاعة مجمع النقابات المهنية في الكرك كل يوم من الساعة السادسة حتى الثامنة مساء للتعبير عن رفضها زيادة الاسعار. سابعا: التجمع الذي تكرر في مجمع النقابات في اربد للتنديد بسياسة رفع الأسعار، والندوات التي عقدت في المجمع لهذا الغرض . على أنه يمكن القول في ضوء استعراضنا النموذج الاردني للتحركات والجهود الشعبية والسياسية والنقابية لمكافحة الغلاء إن هذا النموذج العربي ليس بالطبع النموذج الوحيد القدوة، إذ ان هنالك بالتأكيد نماذج عربية عديدة اخرى مشرفة تعكس تجاوبا واحساسا حقيقيين صادقين لتلك القوى بنبض الشارع وهموم الجماهير الحقيقية بمختلف فئاتها، ذلك ان انين الغالبية العظمى منها من الغلاء والجور منه، جنبا إلى جنب مع ثبات الاجور على حالها، كل ذلك يشكل السمة المميزة للحياة العامة في اللحظة التاريخية الراهنة بكل البلدان العربية على السواء لا الاردن وحده او البحرين فقط. وباتت هذه الازمة المحتدمة تدفع جديا الآن بتهديد استقرار وتماسك كل المجتمعات العربية وتهدد امنها القومي الداخلي وبخاصة في ظل تفاقم وتراكم المشكلات والازمات الاخرى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والدينية. كما من الواضح جيدا ان التسونامي الحالي المتدفق من موجات الغلاء المتعاقبة سريعا من دون ضوابط او من دون التخفيف ولو نسبيا من حدتها ومعالجة آثارها الخطيرة باتت تهدد حياة السواد الأعظم من المواطنين، ولن تنفع معالجتها القشورية بزيادات هزيلة في المرتبات أو بعلاوات مؤقتة. والاخطر من ذلك فانه من المتوقع ان تزداد مع هذا الوضع المعيشي المأزوم نسبة من هم على خط الفقر أو تحته، ولاسيما في ظل تزايد الفساد. ولعل مبادرة الدولة، انطلاقا من مسؤولياتها الوطنية العليا واحساسها بالتحديات الملموسة التي باتت تواجه الامن الاجتماعي، بتحديد اسعار أهم السلع الغذائية ومراقبتها والاسراع في اصدار قانون حماية المستهلك، وسن قانون جديد لضريبة الدخل يفضي إلى فرض ضريبة على أساس تصاعدي.. لعل كل ذلك يسهم في التخفيف من حدة الازمة وغلواء الغلاء. كما من الأهمية بمكان على المستوى الشعبي حفز المبادرات الخيرية من قبل كبار الاثرياء وأهل الخير لمساعدة المنكوبين بتسونامي الغلاء في الوقت الراهن قدر الامكان، ولاسيما ان نسبة كبيرة من هؤلاء المليونيرية والمليارديرية هي المستفيدة من هذا “التسونامي” الذي زادها ثراء فيما زاد الفقراء فقرا. وأخيرا فلعل تفعيل دور الجمعيات التعاونية وتأسيس المزيد منها، ودعمها من قبل الحكومة والقطاع الخاص لتبيع السلع الضرورية بأسعار مخفضة ولو نسبيا، لهو من الاجراءات والتدابير المطلوبة على الصعيد الشعبي وإلا فلا معنى لوجود الجمعيات التعاونية في بلادنا مادامت لا تفترق أسعارها عن أسعار “السوبرماركت”.
صحيفة اخبار الخليج
16 مارس 2008