يختلف كل طرف في تفسيره لبعض المفاهيم والمصطلحات انطلاقا من رؤيته الفكرية والسياسية للأشياء، وقد لا يلتقي كل المختلفين حول تفسير واحد للمفهوم الدائر حوله النقاش والحوار؛ فقد اختلفت الأطراف حول معنى الحضارة والثقافة والعنف الثوري والإرهاب وغيره من المفردات، ولن نحاول هنا الابتعاد أو الاقتراب من مواقفها بقدر ما سنعرضها كحقائق قائمة. نحاول في مقالة مقتضبة أن نلامس الوعي المجتمعي العربي،وهو وعي مستلب تاريخيا، يستمد مرجعية تلك المسألة التاريخية أو الحالية من عمق وجذور بدائية، وهي ليست محصورة في ثقافة شعب محدد، وإنما مرتبطة بكل الشعوب البدائية وثقافتها وانثربولوجيتها، كونها لم تتطور في فهم الظواهر الطبيعية والمجتمعية، بل وحاولت توظيف القضايا المجتمعية وإسنادها بتلك المرجعية كمتكئ من تحويل العجز الجماعي إلى بطل خارق خارج القوى الطبيعية والإنسانية إلى درجة التأليه، وبأن البطل غير عرضة للخطيئة والهزيمة والانكسار والخيانة. وقد قدمت لنا الأسطورة الإغريقية ومسرحها نماذج أعمال عن البطولة الخارقة للآلهة ونصف الآلهة. وقد سحب وامتد الوعي التاريخي على وعينا المعاصر في تربة تفتقد اللاعقلانية في تفسير الظواهر، حتى بدا البطل اللااخلاقي مقدسا يبلغ قداسة الطهرانية، وتجسيدا لرمزيته تحول إلى أيقونة أبدية وبات من الصعب اختراق الوعي المستلب، إلا بوعي تاريخي متقدم يفتت تلك البنى المجتمعية وتابوهاتها المحصنة. لا نرغب هنا استعراض نماذج عالمية سقطت فيها الشعوب بعاطفة التأليه وقداسة البطل/ الفرد، القادر على انتشال عجزنا نحو عوالم مقدسة. ربما كان جوزيف كامبل في كتابه “البطل بألف وجه” يقدم لنا أنماطا حية في الإرث الإنساني حول ذلك التأليه. لقد مات ستالين كما يقول ديمتري غولوغونوف المؤرخ التاريخي الروسي ولكن ما لم تمت هي “الظاهرة الستالينية” وهي أكثر تجذرا وتشكلا للبطل المقدس، الذي وان اختفى خارج الوجود تبقى صورته الصنمية المحسوسة أو رمزه المجرد يحتل عقلنا، غير أن ذلك البطل المقدس تتم إزالة الغشاء عن حقيقته، ويتم نقده بالوقائع، ولكن جمهوره وأنصاره لا يقبلون بتلك الحقيقة. لهذا ظل ومازال هتلر معبودا لدى جماعته حتى وان حرق كل أوروبا بنازية بغيضة وتمثّله تلامذة مثل فرانكو وموسوليني. وهناك من الأمثلة الكثيرة في العالم بتعددية الأنظمة واختلافها، ومجتمعاتنا الإسلامية والعربية جزء منها. ولكي لا نتوغل في النماذج التاريخية الضاربة في العمق التاريخي ولا حتى تاريخنا الحديث من قرننا المنصرم، فإننا سنقف بعجالة أمام المسألة الخلافية دائما كأمثلة قريبة جدا، فقد اعدم صدام منذ شهور، وعلى الرغم من اجتياحه العدواني على الكويت ولا يختلف اثنان حول طبيعته العدوانية، فان أنصاره البعثيين، أقاموا له في البحرين تأبينا بحجم قوتهم السياسية البائسة،وتقاسم الأخوة القوميون من الشيعة والسنة صنميتهم لصدام كونه “بطلهم المقدس حامي البوابة الشرقية” اتحدا في التأليه؛ فغضب طابور من الشيعة على أساس جرح مشاعرهم وتضامنا مع الطائفة وليس الشعب العراقي!! هذا مجرد مثال للبطل المهزوم. وقد غادر جورج حبش منسيا دون أن يحظى بتوديع البطل المقدس، وإنما بتأبين متواضع، دون أن يتعرض لنقد حقيقي كونه قائدا كبيرا للإرهاب اليساري في زمن السبعينات ولخطف بشر وطائرات بحجة أنها عملية نضالية لقضية مقدسة. هذه التراجكوميديا في زمنها المنكسر ربما يتعرض صاحبها في السبعينات للخطف والاغتيال والتصفية لو انتقد بطلها، إذ لا يجوز تخطئة البطل المقدس ومحاسبته، حتى وان تلطخت أو تدنست يده بدم الأبرياء. أما نموذجنا الأكثر تناقضا ووضوحا هو البطل المقدس في كهوف وزيرستان أو أية “ستان مقدس” يتهجد فيها البطل لنصرة مريديه وقد منحهم بطاقة العبور للجنة، كونهم دخلوا حلبة الجهاد حتى لدك الصليبية الجديدة، وهو يخرج لنا كل مرة بقناع جديد وخطاب أجد يلقيه الأتباع نيابة عنه، إذ البطل لا يتحدث دائما، وإنما وقت المصائب والضرورات لحل خوارق مؤجلة. ترى هل يجرؤ الأخوة المتشددون نقد بطلهم الهارب علانية أم يعتبرون “التخفي” سمة قدسية من سمات البطل الخارق. ما فعله بن لادن وما يفعله أنصاره نعجز هنا مناقشتها لحجم الزاوية، فهؤلاء تلطخت أيديهم بأشلاء الأطفال والضحايا في كل مكان. ويحتل مغنية التماثل ذاته في نظر أتباعه ومريديه، فهم لا يرون إلا بعين واحدة ومن وجه واحد للعملة، عملة الشهيد البطل، بينما ضحاياه من لم تدفع لهم فاتورة الموت نحاول نسيانهم، فقد نسينا أن مغنية مطلوب في قوائم عدة، وبأنه نتاج معسكرات فتح والمنظمات الفلسطينية التي كانت في السبعينات معنية بتصدير جماعات إرهابية، صاروا في ملصقات الشوارع يحملون لقب البطل النموذج ! العقل العربي النقدي غائب وهو مستلب ومهزوم تحت مظلة السواد السائد القائم على فكرة التسليم بقداسة البطل وتأليهه، دون أي تمحص وقراءة نقدية أو تقليب للأوراق التاريخية.
صحيفة الايام
16 مارس 2008