“70 إلى 80 قتيلاً وعشرات الجرحى يومياً.. هذا غير معقول’.. هذا مقتطف من تصريح للأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى تعليقاً على المحرقة التي نفذها الجيش الإسرائيلي ضد سكان قطاع غزة قيد الحصار والتجويع الجماعي يوم الأربعاء 27 فبراير الماضي والتي استمرت لخمسة أيام متتالية. كلا يا أخ عمرو موسى، ليس هذا هو التصريح المنتظر من الناطق الرسمي باسم الجامعة العربية وليست هذه هي المفردات الملائمة للرد على جريمة بحجم المحرقة التي اعترف نائب وزير الدفاع الإسرائيلي ‘بعظمة لسانه’ بأن الجيش الإسرائيلي سيرتكبها ضد سكان قطاع غزة. هذا التصريح يحتمل ‘معقولية’ الجريمة الإسرائيلية لو لم يكن عدد الضحايا بهذا الكم ‘غير المعقول’، ولا نخال أن أمين عام الجامعة العربية قد عنى هذا المؤدى من الكلام (من حيث لا يقصد بطبيعة الحال). إنما ارتجال التصريح واستعجاله، على ما نرجح، هو ما أفضى إلى هذا المعنى غير الملائم بالمطلق لتوصيف حجم جريمة إرهاب الدولة المادي الذي نفذته آلة الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة على مدى بضعة أيام وحسب، والتي تجسدت، بعد رفع الستار عن هولها، دماراً هائلاً وقتلاً وحشياً بالجملة. أين هذا التعبير الملطف للغاية والمغرق في دبلوماسيته من ذلكم التعبير الدقيق الذي استخدمه نائب وزير الدفاع الإسرائيلي لوصفه الحال الذي سينتهي إليه سكان قطاع غزة على يد الجيش الإسرائيلي، وهو المحرقة؟ نعم المحرقة وهو الوصف الدقيق. نعم لم يخطئ المسؤول العسكري الإسرائيلي في توصيفه لهول وفداحة الكارثة التي ستحل بالشعب الفلسطيني على يد آلة الحرب الإسرائيلية. فلقد هدد سكان قطاع غزة بمحرقة حقيقية، وهو عنى ما قاله بكل ما أوحت به نزعته وغريزته وكيانه الشعوري من تصور للصاعقة التي ستحيق بمليون ونصف المليون فلسطيني هم عدد سكان غزة. بدليل أن الجيش الإسرائيلي قام خلال خمسة أيام فقط من ‘بروفا’ المحرقة ‘الموعودة’ بقتل 120 فلسطينياً وجرح 350 آخرين نصفهم من الأطفال والمدنيين الذي لم يجدوا بداً من الفرار من دورهم السكنية بعد أن تحولت إلى أهداف لجنون آلة المحرقة الإسرائيلية. ولم تقدح في نعت المحرقة الذي استخدمه المسؤول العسكري الإسرائيلي، الجهود السياسية والإعلامية واسعة النطاق التي بذلتها إسرائيل لاحتواء أضرار هذا التصريح/الاعتراف، ولا مسارعة نائب وزير الدفاع الإسرائيلي نفسه فيما بعد لمحاولة تدارك ما يمكن تداركه من تفاعلات في الإعلام الدولي لصدى كلماته الفاضحة. فتلك كانت ‘سقطة’ سياسية وإعلامية كبيرة جداً يصعب تصور وقوع دولة دينية مؤدلجة بامتياز ودولة بوليسية محكمة الإغلاق الأمني والانضباط الإعلامي الصارم، والسقوط فيها وفي إحراجاتها السياسية والأخلاقية البليغة، وذلك بدليل هروع كافة أطقمها السياسية الإيديولوجية والإعلامية الدوغمائية لنفي تفسير التعبير اللغوي العبري الذي استخدمه المسؤول العسكري الإسرائيلي لتخفيف وطأتها، لأن هذا الاعتراف الرسمي الإسرائيلي بوجود خطة أو نية لتعريض شعب كامل لمحرقة يرقى إلى الإقرار بأن إسرائيل تعتمد أساليب النازية الهتلرية، ولهذا كما نعلم، وقع خاص وخطير في الذاكرة والذهنية الغربية. والمثير في الأمر أن المسؤول العسكري الإسرائيلي إذ حاول التنصل من المعنى الدقيق لتصريحه الشائن، فإنه كمَن حاول ‘تكحيلها فعماها’، حيث ابتغى مراوغة كلماته وإعادة تأويلها بالدفع بأنه إنما قصد إنزال كارثة وليس محرقة بالشعب الفلسطيني، فلم يفعل سوى تفسيره للماء بالماء. ذلك أن الكارثة، وفقاً لمنطق الأشياء، هي النتاج الطبيعي لفعل المحرقة. ولا أدري كيف لم تتلقف أجهزة الميديا العربية هذا الاعتراف الرسمي الإسرائيلي ومؤداه أن إسرائيل تتبع سياسة تطهير عرقي ممنهج من خلال تجريدها للحملات العسكرية المنتظمة لقتل أعداد مستهدفة من الفلسطينيين في كل حملة من هذه الحملات التي لا يكاد يفصل الواحدة عن الأخرى أي فاصل زمني لالتقاط الأنفاس. وأي التقاط للأنفاس أصلاً والحصار وقطع الطرقات جاثمان كالجبال الصم على صدورهم! ذلك لم يحدث للأسف الشديد، مع أنه في ظل الوضع القائم الذي فرضته الولايات المتحدة وإسرائيل وقواعد اللعبة الخاصة به المتمثلة في احتفاظ إسرائيل بالأراضي التي احتلتها وإجبار الطرف العربي على التفاوض اللانهائي الذي يتصدر أجندته التطبيع والسلام مع إسرائيل لمفتاح للتسوية، نقول مع إنه في وضع كهذا ليس أقل من أن تدير الحكومات العربية المعركة السياسية والإعلامية بجدية أكبر وكفاءة أفضل. فلا صدرت احتجاجات رسمية ولا تم التقدم بمذكرة شارحة إلى أمين عام الأمم المتحدة، ليتم توزيعها بالتزامن على بقية أعضاء مجلس الأمن والأعضاء الرئيسيين في الجمعية العامة. ولا نُظمت مؤتمرات صحفية من قبل السفارات العربية أو حتى ممثليات الجامعة العربية في العواصم الغربية، ولا شاهدنا مساحات حوارية مكرسة للمناقشة والتداول في تصريح المسؤول العسكري الإسرائيلي الفاضح والخطير. في هذا السياق يندرج تحفظنا على العبارات المتحفظة جداً والدبلوماسية جداً التي استخدمها أمين عام الجامعة العربية عمرو موسى في تعليقه على محرقة إسرائيل الأخيرة في غزة.
صحيفة الوطن
15 مارس 2008