نظم معهد التنمية السياسية ندوة سياسية في أواخر فبراير الماضي تحت عنوان “ثقافة المواطنة بدول مجلس التعاون” والتي دعا للمشاركة في أعمالها نخبة من كبار المثقفين والأكاديميين الخليجيين، ويعتبر موضوع “المواطنة” من أهم القضايا الآنية التي تشغل بال القوى السياسية الخليجية ومؤسسات المجتمع المدني وتتطلع إلى تحقيقه كحلم غير منجز بعد على الرغم من كل الشعارات المرفوعة على المستوى الرسمي الخليجي حول تطبيقه أو المناداة به. وغنى عن القول إن المواطنة كمفهوم، أو كمصطلح، إنما هو وثيق الارتباط بشعارات وقيم التحديث العصرية الديمقراطية. إذ لا مواطنة حقيقية في ظل نظام لا يقوم على الفصل الفعلي الحقيقي بين السلطات الثلاث وليس الادعاء بوجود مثل هذا الفصل أو النص عليه لفظيا في الدستور، كما لا يمكن تحقيق المواطنة في ظل غياب ضمانات كافية لإطلاق الحريات العامة من دون قيود، أو في ظل غياب حرية الصحافة وحرية التعبير، أو في ظل غياب حرية تنظيم مؤسسات المجتمع المدني على اختلاف اشكالها ومجالاتها، ولاسيما حرية التنظيم النقابي، ولا مواطنة كذلك في ظل تغييب تداول السلطة والتعددية السياسية. وباختصار شديد فانه لا يمكن نقل مفهوم “المواطنة” من الحيز النظري المجرد إلى حيز الواقع المطبق من دون توافر على الاقل حد أدنى مقبول من الاصلاح السياسي الفعلي بكل أبعاده الاقتصادية والثقافية والاجتماعية. وإذا ما أتينا للواقع الحالي المعاش في الحياة السياسية الداخلية لكل دول مجلس التعاون، بما فيها بعض الدول التي لها تجربة “ديمقراطية” عريقة كالكويت أو البحرين التي لها تجربتان: قديمة قصيرة الاجل (1973-1975)، وحديثة مازالت فتية، فان كل هذه الدول بلا استثناء ينتفي فيها الحد الأدنى من الشروط اللازمة لتحقيق المواطنة الآنفة الذكر. ولتأكيد هذه الفرضية ما علينا سوى ان نعرف مفهوم المواطنة بشكل مختصر ومبسط، فمع ان هناك تعريفات أو صياغات متعددة للمفهوم الا انها تكاد تتفق جميعها في الجوهر. وعلى حد تعبير المفكر المصري الراحل وليم قلادة فان المواطنة لا تتحقق الا عند توافر ثلاثة أركان: الانتماء الى الأرض أولا، والمشاركة ثانيا، والمساواة والندية ثالثا. ويضيف: “ويعتبر وعي الانسان بأنه مواطن أصيل في بلاده وليس مجرد مقيم يخضع لنظام معين من دون ان يشارك في صنع القرارات داخل هذا النظام.. هذا الوعي بالمواطنة يعتبر نقطة البدء الاساسية في تشكيل نظرته إلى نفسه وإلى بلاده وإلى شركاءه في صفة المواطنة”. وبالتالي فلكل مواطن نفس الحقوق المقرة دستوريا دون زيادة أو نقصان بين مواطن وآخر، وعليه نفس الواجبات دونما زيادة أو نقصان بين مواطن وآخر. ويفرق قلادة بين “الدستور -البرنامج” و”الدستور – القانون” فالأول يتضمن ما يأمله المواطنون في المستقبل القريب أو البعيد، أي هو عبارة عن تجميع نصوص برنامجية شعاراتية عامة يستطيع الحكام التنصل منها ويطلق عليها دستورا، أما “الدستور – القانون” فهو يعبر عن حقيقة واقعية منجزة كتعبير عن عقد اجتماعي فعلي، فيكون من الطبيعي ان تطبق أحكامه بانتظام واطراد من دون ان يتمكن الحكام من تعطيله أو التنصل منه. وكل نظام دستوري فعلي جوهره المواطنة هو تعبير عن حركة المحكومين لعبور حاجز السلطة. فالمواطنة ليس سندها النص، أو ترديدها كشعارات خاوية المضمون بلا تطبيق، بل الحركة التي قامت بها الجماعة بكل مكوناتها (انظر: مبدأ المواطنة، قلادة، سلسلة المواطنة، المركز القبطي للدراسات الاجتماعية). هذا التعريف للمواطنة وشروطها لا يكاد يتوافر في كل دول مجلس التعاون. وعودة لأوراق العمل المقدمة في الندوة فانه رغم ما امتاز به بعضها من اعتراف حذر بالإشارة إلى بواطن ومظاهر معوقات تحقيق المواطنة بدول مجلس التعاون فإنه غلب عليها جميعها صفة التوصيف النظري من دون التوغل المعمق في جذور المشكلة داخل هذه الدول كل على حدة، وتسمية الاشياء بأسمائها، وتحديد مواضع الخلل والاحجار العثرة التي تحول دون تحقيق مبدأ المواطنة وتطبيقه فعليا. فعلى سبيل المثال، لا الحصر، على الرغم من ان ابتسام الكتبي أصابت كبد الحقيقة بقولها: “ان الدولة الاستبدادية لا تتيح الفرصة الكاملة لنمو المواطنة باعتبارها تحرم قطاعا من البشر من حقهم في المشاركة”، وان الدولة قد تسقط فريسة حكم الاقلية التي تسيطر على الموارد أو المصادر الرئيسية للمجتمع، ومن ثم تحرم بقية المواطنين من حقوقهم في المشاركة أو الحصول على انصبتهم من الموارد، الأمر الذي يدفعهم للتخلي عن القيام بواجباتهم والتزاماتهم الاساسية كاملة، وهو ما يعني انتفاء شروط تحقيق المواطنة. إلا أن الكتبي لم تحدد حالات أو نماذج عيانية ملموسة من دول مجلس التعاون تؤكد بها فرضيتها، وهي فرضية على أي حال صحيحة وتنطبق على كل دول مجلس التعاون وإن بدرجات متفاوتة. وهكذا يمكن ان نصل من كل ما تقدم إلى اننا مازلنا أصلا بحاجة مقدما إلى حرية تعبير كافية تتيح مناقشة معوقات تحقيق المواطنة في دول مجلس التعاون وتحديدها بكل شفافية من دون خوف أو وجل، وهذا ما هو غير متحقق للأسف حتى الآن. وإذا كان هامش حرية التعبير المتوافر في بعض البلدان الخليجية التي تتبنى تجارب اصلاحية لا يتسع لمناقشة هذه القضية الحيوية الفائقة الاهمية، فما بالنا بمناقشتها في البلدان التي ينعدم فيها الهامش كليا؟ وهكذا فان الطبيب لا يستطيع تقديم الدواء قبل تشخيص الداء تشخيصا كاملا دقيقا.
صحيفة اخبار الخليج
9 مارس 2008