المنشور

غزة المستباحة‮… ‬قفص كبير

يبدو لنا المشهد الدرامي‮ ‬محصورا في‮ ‬جحيم وفاجعة قطاع‮ ‬غزة،‮ ‬غير أن المشروع أوسع من بؤرة ذلك المكان الجيوديموغرافي‮ ‬الصغير،‮ ‬الذي‮ ‬بات بالفعل جديرا بان نطلق عليه قفصا وسجنا كبيرا من زمن روما العبيد،‮ ‬إذ على شعب‮ ‬غزة أن‮ ‬يصبح جميعهم من المقاتلين المجالدين،‮ ‬يدافعون عن أنفسهم أمام الوحوش الضارية،‮ ‬ولكن ليس بإمكان كل فرد أن‮ ‬يتحول إلى بطل تاريخي،‮ ‬مهما حاولنا شحنه بالحماس والآمال والغضب،‮ ‬فليس بمقدور الأمهات العزل ولا أطفالهن مواجهة صواريخ مدمرة من الفضاء ولا مجنزرات ودبابات تزحف كالثعابين تحيط بمنازلهم فتجرفها كيفما تريد ووقتما ترغب‮.‬ إذ العصابات الصغيرة المربوطة فوق جبهة الأطفال لن تنفع وحدها بتدشين الإرادة في‮ ‬سجن كبير اسمه‮ ‬غزة ومع قوة متغطرسة لا‮ ‬يردعها احد،‮ ‬فقد صار المجتمع الدولي‮ ‬والأمم المتحدة مؤسسة تجيد إصدار الإدانات ثم تنصرف من القاعة حتى إشعار أخر،‮ ‬إذ لا‮ ‬يمكن لمجتمع دولي‮ ‬أن‮ ‬يكون فاعلا ومؤثرا دون ضغط عربي‮ ‬محاط بقوى أخرى تقف معه وقت المحنة‮.‬ ‮ ‬ما نراه أمامنا على التلفاز‮ ‬يعكس حقيقة المشروع الكبير في‮ ‬الشرق الأوسط،‮ ‬فباسم محاربة الإرهاب‮ ‬يتم تدمير كل شيء دون مسوغات أو مبررات شرعية أو حتى‮ ‬غير شرعية،‮ ‬فالدبابات التركية الذاهبة إلى شريط الحدود العراقية‮ – ‬التركية محسوبة سيناريوهاتها في‮ ‬البيت الأبيض،‮ ‬فالمطلوب فقط تدمير حزب العمال الكردستاني‮ ‬كمنظمة إرهابية قرر العالم في‮ ‬أروقة الأمم المتحدة وضعها ضمن قائمة الإرهاب،‮ ‬وبذلك‮ ‬يحق للجهات المعنية ملاحقتها في‮ ‬كهوف وجحور ذلك الشريط الثلجي‮ ‬والجبلي‮ ‬الوعر،‮ ‬غير أن الولايات المتحدة مهتمة بحدود حركة الجيش التركي‮ ‬هناك فقط،‮ ‬إذ أصبح العراق خزان نفط استراتيجي‮ ‬للمستقبل الأمريكي،‮ ‬بينما قطاع‮ ‬غزة ليست إلا خلفية من القمامات في‮ ‬الفناء العالمي،‮ ‬ولا‮ ‬يهم ماذا‮ ‬يحدث لأطفال ونساء وشيوخ‮ ‬غزة طالما المطلوب رأس المنظمات الإرهابية،‮ ‬بينما تبعث الولايات المتحدة لإسرائيل ضوئها الأخضر والأسود،‮ ‬بان تفعل ما تريد دون حدود أو شروط وبشيك سياسي‮ ‬مفتوح حتى وان تم حرق القطاع كله،‮ ‬فشمشون الجديد‮ ‬يؤمن بفلسفة‮ “‬أفعل ما تشاء‮” ‬ولذلك لم‮ ‬يعد العالم‮ ‬يستيقظ على وقع ضحية هنا وضحية هناك،‮ ‬وإنما بمشروع تدميري‮ ‬واضح‮ ‬يؤسس لصيف لبناني‮ ‬ساخن‮.‬ ‮ ‬المهم تنظيف الخلفية المشاغبة بالصواريخ فيما لو قررت إسرائيل تصفية حساباتها مع حزب الله،‮ ‬إذ لا بد من استعادة هيبتها وهالتها من هزيمة‮ ‬يونيو‮٥٠٠٢‬،‮ ‬بعد فقد المواطن الإسرائيلي‮ ‬الثقة بجيشه الذي‮ ‬تم تأسيسه على أساس كونه الحامي‮ ‬والضامن لهم‮ ’‬وتحول إلى صورة منهارة في‮ ‬الذاكرة المجتمعية والمستوطنات الأمامية للقطاع‮.‬ ‮ ‬ما قامت به الولايات المتحدة من تحريك مدمرتها‮ “‬كول‮” ‬من مالطة إلى السواحل اللبنانية كان رسالة واضحة لطرفين هما سوريا وحزب الله من جهة‮’‬بعرض عضلاتها في‮ ‬مجتمع دولي‮ ‬انهار توازنه،‮ ‬ومن جهة أخرى رسالة لإسرائيل نقدم لكم حماية خلفية من البحر،‮ ‬وافعلوا ما‮ ‬يحلو لكم في‮ ‬القطاع،‮ ‬فهل بدا هذا التحرك عفويا أم فقط رسالة للوضع اللبناني‮ ‬الداخلي،‮ ‬بان الولايات المتحدة هذه المرة ستكون طرفا مباشرا في‮ ‬التنسيق مع إسرائيل في‮ ‬تسوية وضع لبنان والقطاع كمركزين‮ ‬غير مستقرين،‮ ‬بل وبات تهريب صواريخ الكاتيوشا من البحر أكثر خطورة على المواقع السكنية البعيدة كعسقلان،‮ ‬مما افزع إسرائيل،‮ ‬والتي‮ ‬لم تكن بحاجة إلى ذريعة،‮ ‬فهي‮ ‬تفعل ما تشاء حتى في‮ ‬الضفة الغربية دون احترام القيادة فيها،‮ ‬مما‮ ‬يضعها في‮ ‬حرج مكشوف،‮ ‬بأنها ليست إلا سلطة احتلال لا حول لها ولا قوة،‮ ‬وكل ما عليها هو تحميل اللوم كله على الحكومة المقالة بقيادة حماس‮.‬ ‮ ‬وفي‮ ‬الوقت ذاته ترفع صوتها المبحوح في‮ ‬بيانات وتصريحات الإدانة،‮ ‬فيتم الكتابة إلى الاتحاد الدولي‮ ‬والأمم المتحدة واللجنة الخماسية زائدا واحد،‮ ‬في‮ ‬وقت‮ ‬يدرك كل هؤلاء الأطراف الفرق بين احتلال استيطاني‮ ‬وعربدة عسكرية،‮ ‬ومقاومة بلغت حدا من التطرف لحماقات سياسية داخلية وخارجية،‮ ‬فقد تركت التنظيمات الدينية الدعوة،‮ ‬وباتت تحلم بالسلطة والدولة الدينية والسيطرة على سكان‮ ‬غزة،‮ ‬فلم‮ ‬يعد تكفين القتلى من الفلسطينيين مهما بالعلم الفلسطيني‮ ’‬وإنما بلون اخضر وكتابات دعائية للهيمنة أكثر منها تأكيد شعار الوطن والسلطة الفلسطينية،‮ ‬فمصطلحات حماس وشعاراتها تعلو على مفردات الوطن‮. ‬لا‮ ‬يختلف اثنان في‮ ‬مسألة واحدة خلقت ظروفا مهيأة لتدمير القطاع،‮ ‬باعتبار أن‮ ‬غزة تحولت إلى مستوطنة‮ “‬حماسية‮” ‬وسقط العالم بين خيارين سوداويين ذهب ضحيته العزل والأطفال من‮ ‬غزة،‮ ‬وتحول الخطاب الإعلامي‮ ‬والدعائي‮ ‬الإسرائيلي‮ ‬واضحا للعالم الآخر،‮ ‬الذي‮ ‬نهرع إليه مستنجدين نطلب الاستغاثة،‮ ‬بل ووجدنا المواطن العربي‮ ‬والحماس الإسلامي‮ ‬لا‮ ‬يتعدى تظاهرات السخط تثيرها انفعالات المشهد التراجيدي‮ ‬في‮ ‬غزة وتلك الهستيريا المؤلمة هناك،‮ ‬فصار قطاع‮ ‬غزة قفصا كبيرا لا‮ ‬يمكن الهروب من داخله،‮ ‬إذ في‮ ‬جغرافيا بلدان أخرى‮ ‬يحملن النساء أطفالهن،‮ ‬بحثا عن خيام اللجوء في‮ ‬جوار آمن‮ ’‬بينما قفص‮ ‬غزة محاصر بين البحر المسكون بالمدمرات العملاقة والمعابر المغلقة المخزية‮. ‬وبين أنظمة عربية منقسمة ومنظمات فلسطينية متطاحنة،‮ ‬ومواقف عربية تعيش حيرتها وتنظيمات متطرفة لا تعرف معنى التنازل،‮ ‬وتجيد البكاء وطلب النجدة كلما أدركت أن صراخ الوصول إلى تل أبيب حلما سرابيا،‮ ‬حتى وان استمعنا إلى خطب حزب الله والنص الإيراني‮ ‬الدائم أن إسرائيل ستمحى من الوجود وإنها كيان مصطنع‮. ‬هذا الدرس التاريخي‮ ‬الساذج لا‮ ‬يستقيم لمعادلات المنطق والحقائق السياسية على الأرض،‮ ‬متناسين ما‮ ‬يردده صقور إسرائيل بأنهم سيحرقون‮ ‬غزة،‮ ‬وهم أنفسهم الذين‮ ‬يخبئون قنابلهم النووية المصنوعة للحظة التدمير الجماعي‮ ‬والجغرافي،‮ ‬حال شعور إسرائيل أنها ستمحى من الوجود،‮ ‬كما‮ ‬يتم ترديده على مسامعنا منذ ستة عقود‮. ‬بين منطق الاستسلام والمغامرة‮ ‬يتم تقاذف الورقة الفلسطينية‮.‬

صحيفة الايام
9 مارس 2008