ذهب أحمد الربعي إلى الموت مبكراً، أبكر بكثير مما يجب. ذهب وهو في ذروة عطائه وتألقه ونضجه السياسي والفكري، وفي وقتٍ تحتاج الساحة الكويتية والخليجية والعربية إلى صوته الشجاع المدوي، وموقفه المقدام وهو يصارع القوى والأفكار والاتجاهات المعيقة للتقدم والبناء الديمقراطي الحقيقي وصون التعددية السياسية والفكرية والاجتماعية، ونبذ فكرة إملاء رأيٍ واحدٍ ونمطٍ واحدٍ من المعيشة والتفكير والسلوك على مجتمعات قائمة على التنوع والتعدد، الذي هو من طبيعة الأمور ومنطقها. أفق الحياة في التمايز لا في التماثل. وكان أحمد الربعي أقرب ما يكون إلى هذه الفكرة العميقة في مقارعاته الفكرية وسجاله السياسي مع الآراء المتزمتة التي لا يروق لها أن تكون هناك فكرة أخرى في الرؤوس غير الفكرة التي تطيب لها لأنها لم تألف أن تتعايش مع الرأي الآخر وتجادله بالتي هي أحسن، لنترك، فيما بعد، للحياة أن تزكي الفكرة الصحيحة وتنبذ الخاطئة، على قاعدة أن البقاء للأصح والأصلح. اجتاز أحمد الربعي معراجاً خصباً في حياته القصيرة، لكنها الحافلة، كأنه عاش أكثر من حياة، فهو إذ بدأ مساره مأخوذا بفكرة التغيير نحو الأحسن تنقل من الفكر القومي المتعصب إلى الفكر اليساري المتطرف ومنه إلى العقلانية السياسية التي لم تغير من جوهر انحيازاته لقيم التقدم والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والعبور بمجتمعات الخليج نحو آفاق الحداثة والاستجابة لتحديات العصر، وهي استجابة غير ممكنة إلا إذا زجينا بأنفسنا في أتون المستقبل، بدل النكوص إلى الوراء واجترار الخطاب البالي الذي لم يقدنا إلا إلى المزالق التي نحن فيها اليوم. كان أحمد الربعي ابن زمنه وابن الظروف المتغيرة من حوله، وبرهافة المثقف والمفكر والمناضل القادر على التقاط المتغيرات من حوله، طوّر خطابه السياسي والفكري، رافضا أن يقيد نفسه في بوتقة مغلقة، غير منفتحة على ما يدور في الحياة من أفكار ومن تجددٍ في الأحوال. وفي هذا المسار لم يهب الربعي من إمكانية الوقوع في الخطأ حيناً وفي سوء التقدير حيناً آخر، إنها سمة المفكر الجسور غير الهياب الذي يلج دروبا غير مطروقة، ولأنها كذلك فان إمكانية أن تضل فيها خطواتك ولو لحين قائمة، ولكن هذا ضروري لتطوير الفكر والممارسة التي لا تتراكم بالمنجزات وحدها وإنما بالأخطاء أيضا، أما المراوحة في المكان نفسه اطمئناناً إلى يقينٍ اعتدناه، بينما الحياة تتطور في اتجاه مختلف عنه فلا تقود إلا إلى مهالك الأمم والشعوب، ناهيك عن الأفراد. بغياب أحمد الربعي نفتقد رمزاً من رموز هذه الجسارة والجرأة، التي علمنا انه لكي نفكك منظومة الاستبداد العربية التي أدت، بين ما أدت إليه، إلى أنه أن وجد وطنه الكويت ذات صبيحة محتلاً من نظام صدام حسين، لن يتم إلا بتفكيك وتبديد الأفكار والمفاهيم التي صنعت هذه المنظومة الاستبدادية بكافة تنويعاتها وتجلياتها. هذا القول ضروري لكي نمسك بالفكرة المتقدة التي طبعت خطاب أحمد الربعي في سنواته الأخيرة بصفته ناشطا سياسيا ووزيرا للتربية ونائبا في البرلمان وبصفته كاتبا أيضاً.
صحيفة الايام
9 مارس 2008