جمعتني قبل سنوات، وبالتحديد في بداية المشروع الإصلاحي لجلالة الملك، مع إحدى السيدات البحرينيات مناظرة تبحث في مفهوم الحرية بالنسبة للمرأة على اعتبار أننا مختلفتان في وجهات النظر، لكن السيدة المستضافة معي تفاجأت عندما اكتشفت أننا نلتقي في كل وجهات النظر بالنسبة للحرية. والاختلاف فقط في ترجمة المفهوم، لقد كانت تعتقد أن الحرية هي حرية الجنس وعدم الالتزام بالشرائع الإسلامية، بينما حقيقة الأمر أن حرية المرأة هي قدرتها على تمويل نفسها اقتصادياً عندما تشتد الأزمات دون الحاجة لأحد ودون قيود من أطراف اجتماعية أو عائلية. الحرية ليست انحطاطاً أو مفسدة أخلاقية وإنما هي أروع مامنح الله لعباده، وقد قال الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ‘متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا’، نحن جميعاً مجبولون على الحرية، فالحرية تعني كسر القيد عن المعصم، وأثقل هذه القيود هي العادات والتقاليد البالية التي اعتدنا عليها ولم نستطع تجاوزها، وأكثر النساء تتفق على مفهوم الحرية الحقيقي وليس المفهوم المبتذل، الحرية هي الخروج إلى التعليم والعمل. انتهى اللقاء بيني وبين تلك السيدة ولكن لم تنتهِ بعد المغالطة في معنى الحرية، عدد النساء في العالم يساوي ثلاثة مليار نسمة، وهذا العدد كبير يحتاج إلى جهود متتالية من نشر الوعي ليس مقابلة أو مقابلتين، وليس مقالاً أو مقالين، وإنما تحتاج التوعية إلى مؤلفات وكتب حول حقوق المرأة حتى ينتبه المجتمع ويعي دور هذه الإنسانة.. أعتقد أن المشوار طويل ومحير ومربك ولكنه ليس مستحيلاً، لقد كان الجميع يعتقد أن الحرية تعني الدعارة، لهذا كان من حقهن كره هذه الكلمة، ومن حقنا أن نشرح للمرأة ماذا تعني هذه الكلمة، فإذا لم أكتب أنا وتكتب أنت ونكتب نحن فكيف يتحول الظلام نوراً، وأعتقد أنه ما زال هناك من يجهل معنى الحرية. لهذا سجل التاريخ اسم نبوية موسى وهدى شعراوي على أساس أنهما سيدتان رائدتان في العمل النسائي في مصر، فقد أسست شعراوي أول جمعية نسائية في مصر، كان من بنودها إعطاء المرأة حقها في تقرير المصير، وصنع القرار، وتمكينها في مجتمعها بإسناد المهام القيادية لها، أما المرأة في سوريا ولبنان فكان شأنها مختلفاً، فقد كانت ظروف الحرب العالمية الثانية هي التي دفعت في هذا الاتجاه وغيرت حياة المرأة تغييراً نوعياً، فقد تسببت هذه الحرب في مجاعة كبيرة دفع بالمرأة أن تخرج إلى الشارع لكي تبحث عن رزقها. يقول المؤرخ المعروف محمد جميل بيهم، ‘كانت هذه البادرة مفاجأة لم تستعد لها البلاد، سواء أكانت عربية أم تركية، وكان لهذه المفاجأة من ثم تأثير عظيم على المرأة يرجع إليه ما حدث بعد، من تطور في أخلاقها سواء أكان ذلك في النواحي المستحبة أم في النواحي الأخرى المستنكرة’. (العربي، ,31 سنة 1961). وكانت المفاجأة الثانية احتكار الدولة للقوت والسلع، ومصادرة ما كان منها في مستودعات التجار والزراع، وشفعت ذلك باحتكار وسائل النقل وإعلان حالة الطوارئ وتجميد الأموال في البنوك، فتصاعدت أثمان سائر الحاجات، وساد الذهول. كانت بيروت تعتمد على دمشق وحلب في تأمين حاجتها من الحبوب، وكانت سلطات جمال باشا تمنع تصديرها إلا بإجازات: ‘وكانت هذه الإجازات تمنح بصعوبة، ولا تعطى إلا للمحاسيب، أو بواسطة هؤلاء وغيرهم من المرغوب فيهم من الموالين أو المرغوب فيهن من الحسناوات، هذا فضلاً عن طريق الرشوة’. وكان الفقراء يبيعون ما بحوزتهم من ملابس وحلي ورياش، ولما نفدت، عمدوا إلى نوافذ بيوتهم وأبوابها فباعوها. ثم اشتدت المجاعة حتى كنا نسمع في آناء الليل وأطراف النهار صراخ المعدمين ‘جوعان.. جوعان’، وهم بين ملقى على قارعة الطريق لا يستطيع الوقوف على قدميه، وبين ماشٍ على وهَنٍ يطارد الموت. سنوات أربع تعاقبت، يضيف المؤرخ، وكانت كل واحدة منها أشد بلاء من التي سبقتها وأمرّ، ثم ذهبت وتنفس الناس الصعداء، ولكنها تركت ما تركت من آثار. وكان اعتماد المرأة على نفسها، وجرأتها على مواجهة المصاعب، وصبرها على احتمال الشدائد، بالإضافة إلى اضطرارها إلى المداراة في ظروف كثيرة والمصانعة.. كان كل هذا بعض هذه الآثار، وكان كل ذلك مصدر انقلاب عظيم في أخلاقها وشخصيتها’. وهكذا يثبت التاريخ لنا أن المرأة تحملت جزءاً كبيراً في الحياة وما يصفه المؤرخون ماهو إلا قطرة في بحر، لهذا تنبه العالم الآن إلى مكانتها وقوتها وشجاعتها، فالمصائب أكبر درس يتعلم منه الإنسان. إن يوم المرأة العالمي قليل جداً في حقها ولا يستوعب كل ما قدمته وصنعته في الحياة، وهي التي زرعت الحقول وأسست المصانع وصنعت الأجيال، هنيئاً لك أيتها الأم وأيتها السيدة والعاملة والطبيبة والممرضة والمحامية والأستادة في عيدك المتجدد الصاعد. كل عام وأنتن والعالم العربي والمرأة الفلسطينية والعراقية بخير ونجاح.
صحيفة الوطن
8 مارس 2008