أول وأهم ما يعنيه هذا الذي تكشف في شركة “ألبا” من تجاوزات وانحرافات جسيمة، في قضية تشكل برأينا واحدة من أكبر وأغرب واعقد قضايا الفساد في البحرين، هي أن قيمة الرقابة والمساءلة والحساب على مدى سنوات طويلة غيبت ولم تنل حظها الحقيقي في ساحة الأداء العام، إلى درجة خرج فيها البعض باعتقاد مؤداه أن كل مال عام صار مالاً سائباً يستطيع من واتته الفرصة أن يمارس في شأنه من أفعال وتصرفات وتجاوزات دون أن يفكر في حسيب أو رقيب أو فرملة أو سؤال، لذلك لم نسمع بأن من اعتدى على مال عام، أو انحرف، أو أفسد، أو أخطأ، أو تجاوز أو أهمل بقصد أو بغير قصد، مهما كان شأنه ومركزه ومقامه ونفوذه قد أخضع للحساب بأية صورة كانت. ذلك خطأ جسيم فتح الباب على مصراعيه لكي يضرب الفساد بجذوره ليــــــس “ألبا” فقط، وإنما في شركات ومؤسسات ووزارات وأجهزة رسمية عديدة، دون أن نجد أحداً انشغل أو أبدى اهتماماً من أي نوع بضرب معاقل الفساد وملاحقة ومساءلة المفسدين وإصلاح حال الإدارة العامة والعمل العام، وهي العناوين التي كانت ولا تزال الأكثر جاذبية لدى المواطن الذي تحرقه لوعة اتساع مواقع الاهتراء والفساد والهدر أينما كانت. واذا كان ثمة إحساس طاغ بأنه مهما انفتح ملف فساد هنا أو هناك أو هنالــــك، – ما أكثر الملفات الواجب فتحها – أو جرت محاولات ظرفية أو موسمية خجولة بفتح ملف صغير في هذه الشركة أو تلك الوزارة، فإن القدر المتيقن لنا بأن ذلك لا علاقة له بخطة رسمية شاملة لمواجهة قضايا الرشوة والفساد والعمولات والصفقات غير المشروعة، وإلا فما معنى أن تستمر مثل تلك التجاوزات الفادحة في “ألبا” على مدى ٥١ أو ٧١ سنة مضت، ولا تتحرك جهة رسمية أو طرف ما، لا من مجلس الإدارة السابق أو الأسبق، الذي لا نعرف حقيقة مدى الخطأ والصواب فيما ينسب إليه من تصرفات أو مسؤولية، ولا الرقابة الداخلية إن وجدت، ولا دور أي وزارة أو جهاز يفترض أن يكون معنياً بصورة مباشرة أو غير مباشرة برقابة ومتابعة أداء الشركات الحكومية ووضع اللوائح التنظيمية التي تضع قدر الإمكان حداً لمظاهر الانحراف الصارخة كتلك القضية المتداولة الآن بشأن “ألبا”، رغم أنها ليست قضية الفساد المالي والإداري الوحيدة التي شهدتها هذه الشركة خلال العامين السابقين، إلى جانب تلك التي شهدتها شركات كبرى عديدة تابعة للحكومة، وكلها تصب في مجرى الفساد المالي والإداري والسرقات الكبرى، ناهيك عن تلك التي كشف عنها ديوان الرقابة المالية في تقاريره، والتي للأسف لازال ينظر لها أو يتم التعامل معها باعتبارها مجرد “ملاحظات” قيل بأنها ستخضع للمتابعة والدراسة والتقييم، دون أن نسمع بأن مسؤولاً ما حوسب على ما ثبت بحقه من وقائع، أو أن النيابة العامة كلفت بالتحقق مما ذكر من تجاوزات. القضية الأخيرة لـ “ألبا” اللافت فيها أمور أربعة، الأمر الأول هو طبيعة أعمال التزوير والتحايل والطرق الملتوية والرشاوى التي دامت على مــــدى ٥١ أو ٧١ عاماً، والأمر الثاني هو حجم الرشاوى التي قدمت لطاقم الفساد فــي “ألبا” والسرقات التي تمت فيها والتي بلغت نحو ملياري دولار أن لم يكن أكثر، ولكم أن تتصوروا كم مشروعاً، وكم بيت إسكان، وكم مصنعاً وكم وظيفة يمكن أن يوفره ويؤسسه هذا المبلغ، أما الأمر الثالث فهو يتعلق بوزن المتورطين في هذه القضية، وهم قطعاً ليسوا مسؤولين من الدرجة الثالثة، أو حتى الثانية، بل أن ما كشف يشير إلى تورط مسؤولين كبار من العيار الثقيل جداً كانوا ممسكين في يوم من الأيام بمقاليد الأمور بالشركة. أما الأمر الأخير فهو ذو دلالة، وهو إن صحيفة أمريكية هي التي كشفت عن لجوء “ألبا” إلى رفع دعوى لدى محكمة فيدرالية أمريكية ضد شركة “آلكوا” الأمريكية، أكبر شركة ألمونيوم في العالم، بتهمة الضلوع في مؤامرة طوال ٥١ عاماً شملت المبالغة في الأسعار وأعمال تزوير وتقديم رشاوٍ إلى واحد أو أكثر من المسؤولين الكبار ممن كانوا معنيين بدفة إدارة شؤون “ألبا”، واذا كانت الصورة محملة بتفاصيل كثيرة نأمل أن تتكشف في الأيام المقبلة، إلا أن كافة الأسئلة التي أثارتها هذه القضية لا ندري إلى متى تبقى معلقة بغير إجابة، فنحن لم نعرف على وجه التحديد لماذا لم تبادر “ألبا” أو شركة “ممتلكات” التابعة لها “ألبا” أو أي جهة مسؤولة، أو حتى النيابة العامة بإصدار بيان يوضح للرأي العام هنا في البحرين حقيقة هذا الذي جرى في واحدة من أكبر الشركات التي تشكل أحد أعمدة الاقتصاد البحريني، بيان يفرحنا حينما يعلن بأنه قد تم وضع اليد على ملف فساد جديد بالشركة له تشعبات ومنافع فاضت مالاً حراماً ولزمن طويل على قلة من أصحاب الباع والطول، وأن القضاء البحريني سيكون معنياً بهذا الملف على الأقل فيما يخص الأطراف البحرينية المتورطة، بيان يفرحنا أكثر حينما تؤكد لنا هذه الجهة المسؤولة أو تلك بأن زمن حماية أو تحصين المرتكبين والمتجاوزين والفاسدين قد انتهى، وسيكون أياً كان ومهما كان تحت طائلة المساءلة والمجاهرة والملاحقة، بيان يؤكد للجميع بأن ثمة قناعة باتت الآن راسخة، قناعة تؤكد وتفعل توجهاً يرى بأن مكافحة الفساد هو البوابة الأهم للإصلاح، وبأن ذلك أحد مرتكزات الرؤية والاستراتيجية الاقتصادية التي يضعها مجلس التنمية الاقتصادية. في كل الأحوال سيبقى سؤال مهم: هل يحق لنا كمواطنين أن نفرط في التفاؤل ونرفع سقف توقعاتنا ليس حيال قضية فســاد “ألبا” وإنما كل القضايا المماثلة إلى المستوى الذي نظن – رغم أن بعض الظن إثم – بأن الرؤوس الكبيرة والدروع الواقية المتورطة في هذه القضية لن تكون في ظل المشروع الإصلاحي محصنة ضد أي مساءلة أو عقاب، بل سيتم وبكل جرأة وشفافية تحريك النيابة العامة هنا في البحرين وليس في أمريكا ضد الفاسدين في قضية “ألبا” وحيال غيرها من القضايا؟! سؤال لا نملك إجابة عليه، ولكن أقل ما يمكن أن يقال عنه بأنه يثير فينا المواجع..!
صحيفة الايام
7 مارس 2008