المنشور

تراث “وثبة آذار 65”.. قبل وبعد

المسألة هي: ماذا تبقّى خالداً في “انتفاضة مارس 1965” بعد أكثر من أربعة عقود من الزمن في تاريخ البحرين المعاصر؟ هل يمكن أن تكون لدروس “الانتفاضة” أية فائدة للسياسيين ورجال الحكم المحدثين؟ ثم، هل الانتفاضة بنت لحظتها “يوم وثبة آذار” العظيم لهذا الشعب قليل العدد كبير العطاء؟ هذه الأسئلة وسواها نضعها للمنشغلين والمشتغلين بالسياسة، ليشبعوها تحليلاً وتفصيصاً.. يختلفون في الرؤى أو يتفقون.. يصبّون لعناتهم أو ثناءهم على تلك الأيام النابضة بحيوية الرجال وشجاعتهم، بعنفوان الشباب وتطلعاته، بالخليط المتزاحم من المشاعر والحوادث: الخطير منها والتافه، المُضحك والمُفجع، النبيل والوضيع، المتفائل والمتشائم.. إلى آخره. ما تبقى خالداً من “وثبة آذار 65″، ظل مخزوناً في الذاكرة عند الأطفال كما عند الشباب الذين تعايشوا في تلك الفترات العصيبة، وتعاملوا معها كل بطريقته، بعضهم غير مكترث لما يجري، فيما بعضهم الآخر ساهم بطريقة ما في الفعل كلاعب أساسي، أو احتياط، أو متفرج؛ بعضهم كان منظماً شارك بوعي، والآخر بعفوية الناس، ساهم هو الآخر بقدر ما يستطيع هضمه، بما في ذلك براءة الطفولة آنذاك، كيف كانت؟ وبماذا يفكر جلهم، أثناء تعطيل الدراسة رسمياً، أو بفعل حرارة الأوضاع وعنفها؟

(شيء من الذاكرة)

كان، كأن ذلك اليوم من شهر مارس/ آذار، بالنسبة إلينا في حي رأس الرمان الفقير، عطلة رسمية في المدارس الابتدائية، الإعدادية والثانوية، فكل المدارس شبه مقفلة.. صخب وضجيج وضوضاء في الشوارع.. جذوع النخيل والأشجار تقطع الطريق الرئيس الرابط بين المنامة والمحرق الذي يَمرُّ إلى منتصف الحيّ، ومنه إلى المنامة والعكس. ثلة من الصبية تلعب بـ “الشل والطين والوحل”. كان يوماً ممطراً، بينما صبية آخرون يعومون في البحر الذي يبللهم سوية مع المطر، في حين كانت مجاميع من الصبية موزعة على الساحل الممتد من المسجد الكبير في مواجهة جسر المحرق، إلى نهاية بستان “الباليوز” (السفارة البريطانية حالياً) بالقرب من منطقة “الفاضل”. كان هذا البستان سكن المعتمد البريطاني آنذاك، حيث كانت أسواره مغطاة بطولها وعرضها بأسلاك شائكة من الأعلى وتتدلل منه أغصان زهرة “الدباي” المتسلقة، وهي دائمة الخضرة وكثيفة، بينما تمتد أغصانها إلى الساحل الرملي وكانت تلاطمها الأمواج فترة مدّ البحر (قبل دفنه)، وأثناء الجزر يستمتع الصبية بألعابهم الشعبية البسيطة على الرمال ونعومتها. في ذلك اليوم، كانوا خمسة صبية يمارسون لعبة بعلبة كبريت محشوة بالرمل، لكنها “أكبر من أحلامهم”، تسمى “ملك ووزير”، حيث يضعون علبة الكبريت بين السبابة والإبهام، ويرمونها بخفة كي تسقط واقفة بشكل عمودي، حتى يصبح الرامي “ملكاً”، أو بشكل أفقي ليكون “وزيراً”، أما إذا سقطت علبة الكبريت على بطنها من الواجهتين، فيحتسب راميها “حرامي”؛ وهنا يتطلب الأمر أن يأمر “الملك” بعقاب “الحرامي”، ويقوم الوزير بتنفيذ الأوامر في حق “المجرم” الذي خانته “سبابته وإبهامه” من رمية صائبة تنقله إلى “الملوكية” أو “التوزير” (!!). مرَّ شاب بصبغة سوداء فاحمة، اسمه أحمد سالم، وهو من جماعة “بابا عود – أبو لحية” على ما يبدو؛ ووفق المتعارف عليه عند أهالي رأس الرمان آنذاك، أن من يطلق عليه هذا اللقب (بابا عود) فهو يساري، وبابا عود يقصدون به “لينين”. مرَّ هذا الشاب على الصبية وكان يحمل بيده كتاباً، ربما رواية، أو من الكتب الممنوعة آنذاك، فسأل الصبية الذين كانوا منشغلين باندماج في عالمهم الذي لا يخلو من قهقهات وضحك ونكات وتعليقات ومزايدات وتفاخر: “ها شباب، ما فيه مدرسة اليوم؟”، أجابوا بصوت واحد: “شردنا من المدرسة اليوم.. يقال إن هناك مظاهرات وإطلاق رصاص على المتظاهرين، والدنيا معفوسة”. سألهم سؤال آخر: ماذا تلعبون؟ أجابوا مرة أخرى بصوت واحد: “ملك ووزير!”. ضحك أحمد سالم ومشى متمتماً مع نفسه: “ههههههههههه.. ملك ووزير، لا أحد فيكم بصير ملك، ولا وزير.. مردكم تشتغلون على بانوش بيت عمران أو حجي مكي!..”. وقال أيضاً كلاماً غير مفهوم بالنسبة إلينا آنذاك، مثل: يسقط الظلم، يسقط الاستعمار.. هبّوا ضحايا الاضطهاد، ضحايا الجوع والحرمان!!. سأل أحدنا: ماذا يقول أحمد سالم.. وش اخربط؟!. رد ابن عمه حميد قمبر: “اتركوه، هذا، الكتب لاحسه مُخه.. من كثر ما يقرأ كتب “بابا عود” صرنا ما نعرف ماذا يقول، وبأية لغة يتحدث.. إخوانه ما يفهمون ليه، مو تبونّه إحنه نفهم له.. صبروا عليه، كلها يوم يومين بتسمعون ماسكينه الشرطة.. متعود على السجن!”. (وللحديث بقية)
 
صحيقة الوقت
6 مارس 2008