حين كانت تمخر السفن البريطانية البحار نحو مستعمراتها البعيدة، لم تنس أن تحمل على ظهرها البريد مع أرتال الأكياس والصناديق المخزنة بالذهب والبهارات والعبيد مثلما كان عليها أن تعود في رحلة الإياب أو الذهاب ببريد مختوم بالشمع لممثل التاج البريطاني وحاكمها الموقر. ومع حركة التطور في محطات متكاثرة من المستعمرات على أرض الله من اليابسة فإن ولادة تنظيم البريد والمراسلات لعالم التجارة كانت ضرورة جديدة، فلا يمكن ان تتسق عملية التجارة بين المصدر والمستورد دون معاملات كتابية بريدية، ناهيك عن احتياجات جديدة فرضتها المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية. فكان على المستعمر تنظيم جميع تلك المؤسسات والعلاقات بتأسيس دائرة البريد، لهذا سنجد دوما أن الانكليز احتفظوا بالرقم واحد “١” في غالبية مستعمراتهم إذ لم تكن الحكومات الأمية والقبائل على علم بالكتابة والمعاملات التجارية. لذلك احتفظت برقمها الجدير بالسيادة في أزمنة الهيمنة. وبما أن البريد هو احد البوابات الأمنية التي ينبغي رصدها ومراقبتها كبقية المنافذ والمرافئ فقد كان على الانكليز التركيز واليقظة على تلك المؤسسة الحيوية. تقدم العالم بوتيرة سريعة خلال العقدين الاخيرين ودخلنا حقبة جديدة من دنيا الاتصالات وبات الانترنت والبريد الالكتروني منفذاً للشفرات والخطابات الأخطر لعالم الجاسوسية، غير أن تسريب أمور ومواد خطيرة كالمخدرات والمتفجرات تبقى صعبة بالبريد الالكتروني إن لم تكن هناك منافذ رسمية أو غير رسمية كالتهريب مما اقتضى دوما اعتبار مؤسسة البريد خطا دفاعيا أماميا لصيانة الدولة والمجتمع والمؤسسات. هذا ما نفهمه جيدا في مراحل الاستعمار والدولة المستقلة، وفي مرحلة الإصلاح فالولاء للوطن مسألة عليا لدى كل شخص ينتمي لبلاده وعليه بالمثل أن يحافظ على ولاء مؤسسته ويحافظ على أسرار الوظيفة كلما كانت حساسة تلك الأبجديات المهنية يفهمها الجميع ولكن ما لا يفهمه احد اليوم وفي ظل المنجزات النقابية والتشريعات الملكية والاحتفالات بالعيد الأول من مايو ومتغيرات كثيرة مست الحركة النقابية والعمالية ذلك النهج والسلوك الغريب جدا لإدارة البريد مع النقابية نجية عبدالغفار التي لم تمارس انقلابا عسكريا في مؤسسة البريد لكي تحارب بتلك القسوة والعسف الوظيفي، إن لم يكن هناك في تلك الإدارة إرث طائفي أو غيره من الموروثات الخطيرة؛ فذهنية البعض لم تستوعب فكرة أن البحرين دخلت حقبة جديدة ومقبلة باستمرار على متغيرات وان حركة التاريخ لن تعود إلى الوراء وان كانت هناك عصي توضع لعرقلة تلك العجلات، ومن شاكلتها ما يمارس ضد نجية على أساس أنها رسالة موجهة لكل عمال البريد والنقابيين، ومن خلال هذه السياسة تحول نهج إدارة البريد إلى نمط من الجندرمة التي لا تعرف إلا التهديد متناسية أن نجية نموذج لطابور عريض صامت قد لا يقبل أن يواصل الصمت خوفا أكثر من اللازم. ينبغي فهم تلك الحقيقة في زمن مشروع الملك الإصلاحي فهناك عدة حلقات ستجد إدارة البريد نفسها لا خلاص منها، أولا حركة الاحتجاج الاجتماعي ثم النقابي، وأخيرا مثل هؤلاء لا يدركون ان هناك سقفاً جديداً للحقوق موجود في العالم لا يجوز زج بلادنا بها كجزء من ملف حقوق الإنسان بسبب الخوف من النقابات في البريد وبحق الموظفين وعمال البريد تأسيس نقابتهم أسوة بالآخرين فليس دائما القهر والمضايقات تكسر الإرادات وإنما العكس هو الصحيح، فليس هناك مسألة أهم من الحريات للجميع، ومعركة نجية عبدالغفار نموذج لصراع إرادتين احداهما تمثل مستقبل كل إنسان حر في مملكة البحرين.
صحيفة الايام
4 مارس 2008