المنشور

من أين نأتي‮ ‬بالوقت؟

يضيق الوقت على الالتزامات والمهام التي‮ ‬يرغب المرء في‮ ‬أدائها‮: ‬أن‮ ‬ينخرط في‮ ‬الحياة فيكون حاضراً‮ ‬في‮ ‬قلب أحداثها،‮ ‬وأن‮ ‬يقرأ كتباً‮ ‬كثيرة،‮ ‬وأن‮ ‬يسامر أصدقاء‮ ‬يحبهم،‮ ‬أو‮ ‬يهاتفهم،‮ ‬وأن‮ ‬يذهب للعمل صباح كل‮ ‬يوم في‮ ‬الموعد إياه،‮ ‬وأن‮ ‬يجد عدداً‮ ‬كافياً‮ ‬من الساعات كي‮ ‬يخلد إلى نوم عميق‮ ‬يستمد منه طاقة ونشاطاً‮.‬ شدتني‮ ‬عبارة قرأتها مرة على لسان رجل سأله أحدهم،‮ ‬وهو‮ ‬يشكره على خدمة أجزاها له قائلاً‮: ‬أنت تقدم الكثير من وقتك‮. ‬فرد الرجل‮: “‬المرء لا‮ ‬يقدم وقتاً‮ ‬أبداً‮. ‬إنه‮ ‬يقدم اهتماماً،‮ ‬نصائح،‮ ‬معلومات،‮ ‬صداقة،‮ ‬ما أدراني‮ ‬ماذا أيضاً؟ الوقت ليس ملكاً‮ ‬لأحد‮. ‬إنه أداة قياس‮”.‬ أدهشني‮ ‬هذا التوصيف الدقيق للوقت،‮ ‬من أنه ليس أكثر من أداة قياس،‮ ‬وهو توصيف‮ ‬يرغب صاحبه في‮ ‬أن‮ ‬يبدد الفكرة المستقرة في‮ ‬الأذهان عن إضاعة الوقت أو‮ “‬تضييع‮” ‬الوقت‮.‬ وقد‮ ‬يدفعنا التفكير في‮ ‬هذه المسائل إلى متاهات فلسفية عن الزمن،‮ ‬وعن موقعنا في‮ ‬هذا الزمن‮. ‬من الأجدى والأكثر متعة بالنسبة لنا أن نفكر في‮ ‬الأمر بصورة أبسط،‮ ‬بعيداً‮ ‬عن الفلسفة،‮ ‬لنرى أن الوقت الذي‮ ‬نشكو من قلته ليس أكثر من وحدة قياس،‮ ‬ولكنها وحدة قياس مخيفة لأنها تذكرنا بأن مشاريعنا في‮ ‬الحياة هي‮ ‬على الدوام أكثر وأوسع وأكبر من المساحة التي‮ ‬يتيحها لنا الوقت،‮ ‬إنه لا‮ ‬يمتد لكي‮ ‬يمكننا من أن ننجز كل ما نريد‮.‬ ولو أنه امتد لربما اكتشفنا أن مشاريع أخرى جديدة قد نشأت تبعاً‮ ‬لذلك،‮ ‬والمدهش أننا في‮ ‬عصر السرعة،‮ ‬حيث التسهيلات الضرورية متاحة،‮ ‬وهي‮ ‬توفر لنا أوقاتاً‮ ‬إضافية لم تكن متيسرة لأسلافنا،‮ ‬ومع ذلك فإننا نشكو من قلة الوقت‮.‬ أذكر مرة أني‮ ‬تحدثت مع صديق شاكياً‮ ‬له قلة الوقت،‮ ‬وأذكر جوابه المخيف‮: ‬كل الذين ماتوا،‮ ‬رحلوا قبل أن‮ ‬ينجزوا مشاريعهم‮.‬ كان هذا الصديق‮ ‬يستحث فكرة أخرى لديّ‮ ‬ولديه‮: ‬لا تتعب نفسك بالمشاريع الكثيرة‮. ‬ستمضي‮ ‬الحياة قبل أن تنجزها‮.‬ لكني‮ ‬لا آخذ هذه النصيحة على محمل الجد،‮ ‬لأني‮ ‬أظن أن الحياة من دون مشروع تكفُّ‮ ‬عن أن تكون حياة‮.‬
 
صحيفة الايام
4 مارس 2008