لم تخض الولايات المتحدة حربا من حروب تاريخنا الحديث انطلاقا من دوافع مبدئية صادقة. وحتى الحرب العالمية الثانية التي شاركت فيها إلى جانب الحلفاء ضد ألمانيا النازية وإيطاليا واليابان كانت المنطلقات المصلحية هي التي دفعت الولايات المتحدة للمشاركة أكثر من المنطلقات المبدئية الانسانية التقدمية. وبالتالي فكل الحروب التي شنتها الولايات المتحدة أو خاضتها إلى جانب دول اخرى كانت في المقام الأول بدوافع واعتبارات منفعية استراتيجية سياسيا واقتصاديا، ومهما حاولت واشنطن ان تتستر على هذه الدوافع الحقيقية بشعارات براقة عن حقوق الانسان والديمقراطية ومكافحة الارهاب فان مآربها من هذه الحروب لا تسترها ورقة توت. ولما كانت هذه المعارك والحروب التي تخوضها الولايات المتحدة هي في جلها تنتفي منها صفة المبدئية الصادقة فان ذلك غالبا ما ينعكس على الروح العقيدية القتالية لجنودها العسكريين إذ قلة من هؤلاء الجنود من يقاتل بروح عقيدية ومبدئية، بمعنى انه يحارب من أجل قضية مبدئية إنسانية يؤمن بها بشدة، فغالبا ما تكون دوافع هؤلاء الجنود هي الاعتبارات المنفعية الذاتية والتطلع إلى ما سيحصلون عليه من امتيازات اثناء وبعد الخدمة العسكرية في الجيش. ولعل قصص تدني معنويات الجنود الامريكيين في معظم الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة لا تحصى ولا تعد، ولربما ليس آخرها ما تتناقله الصحافة ووكالات الانباء من حكايات عديدة لهبوط معنويات قواتها في العراق، ومن النادر، ان لم يكن من المعدوم، ان تجد جنديا امريكيا يقول لك انه قطع آلاف الكيلومترات من وطنه إلى العراق لمجرد أنه يؤمن بضرورة حماية بلاده والعالم من “إرهاب القاعدة” أو لمساعدة الشعب العراقي على التخلص من صدام ومساعدته على بناء نظام ديمقراطي يكفل حقوق الانسان، وهو ما تروج له إدارة الرئيس جورج بوش. وليس أدل على ان الولايات المتحدة تشن وتشارك في حروب من منطلقات نفعية انتهازية انها لا تتوانى عن استئجار مقاتلين مرتزقة من مؤسسات امنية أمريكية خاصة، كما هو الحال في العراق، وهؤلاء المقاتلون لطالما تورطوا في أعمال القتل الاجرامي بحق المدنيين على غرار الفضيحة التي تورطت فيها شركة “بلاك ووتر”. دع عنك بالطبع الجرائم التي تقترفها قوات الاحتلال النظامية سواء تمثل ذلك في قتل المدنيين أم فيما يمارسه الجنود الامريكيون من موبقات لا اخلاقية وجرائم وحشية يندى لها جبين البشرية في سجون الاحتلال، ولعل اشهرها ما جرى في سجن ابوغريب قبل نحو 3 سنوات. واينما حلت قوات الاحتلال الامريكية في أي بقعة في العالم ظهرت جرائمها وفضائحها اللاأخلاقية، وبالتالي فكيف يمكن ان نفهم أن الجندي الامريكي يحارب بصدق من اجل قضية مبدئية فيما هو أو العديد من زملائه يتورطون في مثل تلك الاعمال المخزية؟ وليس العراق وحده الذي يشهد حكايات وقصصا لا تعد حول تلك الجرائم والاعمال المخزية، بل في كل البلاد التي ابتليت بالاحتلال الامريكي تعرف مثل هذه الحكايات، بدءا من اليابان، حيث فضائح الجنود الامريكيين وتحرشاتهم واغتصاباتهم بحق الفتيات اليابانيات في أوكيناوا مازالت تتوالى، ومرورا بكوريا الجنوبية والفلبين والصومال وليس انتهاء بالعراق. وحينما نقول وليس انتهاء بالعراق فما عليك إلا أن تقرأ – على سبيل المثال لا الحصر – ما تناقلته صحافتنا الخليجية مؤخرا من فضائح جنودهم الليلية في القواعد العسكرية بالمنطقة، حيث يمضون امسياتهم في العلب والكباريهات لاصطحاب فتيات الليل بكل حرية. وهنا يتعاظم الاحساس المفعم بالمرارة من قبل الشعوب المبتلاة بقوات الاحتلال الامريكية أو بقواعدها العسكرية وذلك للكرامة المسفوحة والشرف المستباح على الصعيدين الوطني والخلقي.. ذلك بأن اغتصاب الفتيات في اليابان أو في العراق أو في أي مكان وكذلك اتخاذ الملاهي في البلدان التي توجد لها قواعد عسكرية وسيلة لقضاء المتعة والترفيه عن جنودها، كل ذلك ليس سوى الوجه الآخر لاغتصاب الوطن واستباحة كرامة شعبه. ومادام الحال هو كذلك لحياة وأوضاع الجنود الامريكيين على اراضي البلدان التي يحتلونها ومنها العراق فلاغرابة ان يخوضوا معارك وحروب ادارتهم في ساعات الجد بروح معنوية هابطة وان تنتشر فيما بينهم الامراض النفسية أو تتفشى فيما بين صفوفهم حالات الانتحار. وعلى سبيل المثال كشف تقرير عسكري ان معدلات الانتحار بين الجنود الامريكيين ارتفعت بنسبة تصل إلى 15% خلال عام 2006م مقارنة بعام 2005م ففي العام الأول بلغ عدد المنتحرين 88 جنديا وفي العام الثاني ارتفع العدد إلى 101 جندي. والحال ان ما يمكّن القوات الامريكية من استمرار احتلال اراضي الغير هو تفوق الجيش الأمريكي الساحق في تكنولوجيا الأسلحة الحديثة البالغة التطور وهي التي تعوض بها عن قصور أداء جنودها وهبوط معنوياتهم، ولو ان القوى المعارضة للاحتلال وحدت صفوفها واتفقت على استراتيجية عمل واقعية لمقاومة الاحتلال لما ظلت قوات الاحتلال الامريكية في أي بلد يوما واحدا، بل لأجبرت على الفرار كفرار الجرذان المذعورة كما حدث لهذه القوات في فيتنام عام 1975م، وكما حدث للقوات الاسرائيلية في جنوب لبنان عام 2000م.
صحيفة اخبار الخليج
3 مارس 2008