من منا لا يقلقه تعاظم الحالة الشمولية ‘المتطورة’ في سوريا. ومن منا لا يضع يده على قلبه من التردي المريع لأوضاع نشطاء الحرية وحقوق الإنسان في هذا البلد العربي العزيز. صحيح أن قلة من أوساط النخبة السياسية والنخبة الفكرية والمثقفة العربية، هي التي أظهرت قدراً أكبر من المسؤولية الأخلاقية، قبل القومية، في إعلان تضامنها الصريح والقوي مع المناضلين السوريين من أجل الحرية وحقوق الإنسان، إلا أن لا أحد يستطيع أن يتجاهل القلق الجمعي العربي، وإن كان غير معلن وغير معبر عنه، حتى الآن، بشأن تماسك الجبهة الداخلية السورية باعتباره شرطاً ومقوماً أساسياً لتمكين سوريا من مواجهة الضغوطات الأمريكية والإسرائيلية الهائلة التي تتعرض لها بهدف إلحاقها بقطار التسوية الأمريكي المُفَصَّل على المقاس الإسرائيلي. ولكن، بصراحة شديدة، إن ما يجري لسوريا كثير وكثير جداً. فقد تجاوزت الضغوط الأمريكية والإسرائيلية كل حدود الصراع الجاري عادة في إطار حالة اللاحرب واللاسلم. ووصلت الأعمال العدائية والاستفزازية الأمريكية الإسرائيلية المنسقة ضد سوريا إلى ذروتها وذلك بتكثيف الضغوط النفسية على دمشق من خلال الحضور الإعلامي الواسع النطاق لرأس السلطة في واشنطن والمكرس لمهاجمة سوريا وتهديدها والإعلان عن فرض عقوبات جديدة ومتتابعة ضدها وصلت حد الكيد السياسي الرخيص، والحضور الدبلوماسي الأمريكي المكثف في الجوار المحيط بدمشق الباغي التعريض بالنظام السوري والتحريض الإقليمي ضده والتحشيد من أجل إحكام العزلة عليه وحرمانه من عمقه العربي. وتلعب إسرائيل دور رأس الحربة في هذه الحرب النفسية والسياسية والإعلامية التي تُشن اليوم ضد سوريا. فقامت، بعد التشاور مع واشنطن، بتوجيه سلاحها الجوي للتحليق فوق القصر الرئاسي للرئيس بشار الأسد، ومن بعد شنت غارة على منشأة عسكرية سورية في دير الزور، قبل تتوج عدوانها باغتيال عماد مغنية القائد العسكري لحزب الله في دمشق، وذلك بغية النيل من هيبة النظام السوري وإحراجه وإضعاف معنوياته. ويبدو إن الهدف المركزي للعمل العدائي الأمريكي الإسرائيلي المنسق والسافر ضد سوريا، هو استدراجها، بالاستفزازات المتواصلة، للدخول في مواجهة تنتهي بسوريا إلى المآل الفوضوي الذي تردى إليه العراق. ولذلك نجد أن سوريا اليوم تكاد تقف وحيدة معزولة عن جوارها وعمقها الإقليمي، اللهم اعتمادها على تحالفها مع إيران وحزب الله في لبنان وحركة حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى المعارضة. فهل تكفل هذه المقاربة التحالفية لسوريا المناعة والتحصين اللازمين للتمكن من مقابلة التحديات بجاهزية مادية وبشرية ومعنوية تمكن الوطن والشعب من صد أخطارها المحدقة؟ ليس تماماً، وذلك برسم الانقسام الواضح الذي أحدث شرخاً في جسم الجبهة الداخلية الآخذ في الاتساع مع تصاعد الشقاق بين النظام الحاكم وشبكة المنظمات النشطة في مجال الحريات وحقوق الإنسان، ما جعل الكثير من أعلام الفكر والثقافة والاقتصاد يدفعون ثمن اتساع هذه الفجوة بين السلطة والمعارضين لها سجناً ونفياً واضطهاداً. وهذه بالتأكيد معادلة غير مفهومة على الإطلاق، فالمنطق يفترض أن ينزع النظام للاحتماء بجبهته الداخلية لمجابهة تحديات الخارج لا أن يستعديها ضده ويضعها في خانة واحدة مع تحديات خصوم الخارج. ولعل هذا التعاطي العتيق مع تحديات الخارج – التي كانت دائماً موجودة – وتحديات الداخل (المتقلبة الحدة تبعاً لسير الدورة السياسية ومدى مرونة النظام في مساوقتها)، والذي فاته أن تحديات الراهن المتعولم تختلف كلياً عن تلك التقليدية في زمن العالمية (Internationalisation) السابق لحالة العولمة وتداعياتها – لعـل هـذا التعـاطي مُنْتَهِي الصلاحيـة، هـو الذي يفسر حالة ‘التوحد’ – إن جاز التعبير – التي تعيشها سوريا اليوم، والتي لن يكون ممكنا فك عقدتها من دون تغيير قواعد وأدوات ووسائل التعاطي مع التحديات الشاخصة اليوم أمام دمشق. صحيح ان ‘ظلم ذوي القربى أشد مضاضة من ضرب الحسام المهند’، ولكن سوريا، بالمقابل، أغضبت أشقاءها في الدائرة العربية بعدم مساعدتها وتسهيلها للتحركات العربية لحل الأزمة اللبنانية. وإذا كان ثمة اعتقاد وجيه وصائب بأن ما يجري لسوريا اليوم هو كثير وكثير جداً، فإن الكثيرين في العالم العربي، بمن فيهم أصحاب هذا الاعتقاد الصائب، يرون أن على سوريا أن تساعد نفسها بنفسها أولاً قبل توقع العون والدعم من عمقها العربي الطبيعي.
صحيفة الوطن
1 مارس 2008