سَئِـم المواطن في مملكة البحرين هذا المسلسل الدوري من الاحتقان العبثيّ، الذي ينفلت من عقاله في كل مرة، يتأجج خصوصاً في المناسبات الرسمية وفي مناطق محددة من البلد، ليأخذ شكلاً غريباً من العصيان الفوضويّ ‘insurrection’ في محاولة يائسة ومحبطة لـ ‘كسر العظم’ من خلال تجييش متخندق لشارع طائفة واحدة فحسب من الطائفتين الكريمتين اللتين – دائماً وأبداً – تشكلان النسيج الموحد للمجتمع البحريني. يتمترس هذا التجييش خلف شعارات وهميّة غير واقعية عصيّة المنال، بعيدة كل البعد عن الاعتصام والاحتجاج السلمي القانوني المُجدي، المرغوب فيه من قبل الرأي العام كشكل من أشكال الضغط المجتمعي المدني الجامع، العابر للطوائف الأكثر مردودا بما لا يقاس ‘civil pressure’ بُغية إجبار الحُكم -أي حكم- للاذعان للقانون والشروع في تطبيق الاستحقاقات الاجتماعية. بدلا من ذلك يبدأ الحرق والتخريب والاعتداء على الممتلكات العامة وما يتبع ذلك من رد فعل مفرط وعشوائي مبالغ فيه غير متوازن من قبل قوات الأمن، حيث تجري على مرأى الناس عملية تحطيم أبواب بيوت المواطنين العُزّل عنوة واعتداء -غير مبرر قانونيا- على حرمات البيوت والممتلكات الخاصة. وكأن المواطن البريء يحاسب بجريرة المواطن المذنب. بالطبع تحدث خسائر مادية ومعنوية جسيمة وقد تسقط ضحايا بريئة (آخرها المواطن علي جاسم رحمه الله). الغريب في الأمر أنه في كل مرة بعد أن تتلاشى فورة الغضب تلك، يقوم كل طرف بلوم الطرف الآخر بالتسبب والبدء في الحوادث (فكرة البادي أظلم!) وكأننا في لعبة جهنمية لا يمكن معرفتها بدقة. هل هي من فعل أناس عقلاء ذوي دهاء ومكر غير اعتيادي، أم هي فقط أعمال صبيانية ومراهقة سياسية من قبل تيار ديني/ طائفي مغامر؟. هل هو مخطط جهنمي دقيق، الهدف منه لجم من تسول له نفسه أن يطالب بحقه في العمل والسكن والعيش الكريم..إلخ؟ أم محاولة مستميتة من قبل كابحي مسيرة الإصلاح وتسيد حكم القانون ودولة المؤسسات لخلط الأوراق والحط من هيبة الدولة، والعودة إلى المربع الأول؟ الأنكى أن نفس السيناريو يجري كل مرة ويتكرر كمأساة/ ملهاة، يختلط الجد بالهزل وكأننا أمام منظر ‘سيريالي’ مُفعم بالغرابة، حيث يتحول هؤلاء جميعا بقدرة قادر إلى عقلاء، حكماء وواعظين. كل فريق يدعي البراءة والحرص الشديد على الأمن والأمان وراحة المواطن والسلم الأهلي.. إلخ، في محاولة لتهدئة الشارع، حيث يجري امتصاص فورة الغضب تلك (على جرعات). ولا يدري المواطن العادي مَن تسبب فيها بالضبط؟. ثم يأتي دور ‘المرجعيات’ لتخرج من صمتها في محاولة لإعادة الهيبة والوقار وفرض الطاعة لـ ‘أولي الألباب’، بدل الدفاع عن دولة المؤسسات والقانون وتطبيق بنود قوانينها على الجميع دون استثناء. ويلعب الإعلام الرسمي والشعبي دورا مفارقا ومتناقضا (ايجابيا وسلبيا)، حيث يدلي الكتاب بدلوهم في التحليل والتمحيص، وهو دور ايجابي بلا شك، مع أن الكُثر من الأقلام قد ساهم، من حيث يدري أو لا يدري في زيادة التيه لدى المواطن. القليل منهم كان منصفا من حيث الدقة والحياد الموضوعي والبعض منهم اختار المهمة الأسهل: الانحياز لأحد طرفي المعادلة خصوصا الطرف الأقوى. بالطبع لا يدّعي كاتب هذا المقال أنه قد أصاب حيث أخطأ الآخرون، بل يمارس حقه في إبداء رأي من الآراء في بلدٍ قنّنت وضُمِنت فيه حرية الرأي والتعبير والمُعتقد، وهو انجاز في حد ذاته لم يألفه المواطن البحريني من قبل.
في هذا السياق بودي أن أشير إلى ملاحظات محددة، عسى أن يجدها المعنيون بالأمر مفيدة: أولاً: الحُكم هو اللاعب الأقوى وبحوزته مفاتيح حل الإشكال الديموغرافي (هاجسه الأساس) وعليه حلحلة الملفات المُلحّة وإيجاد حلول للوضع المعيشي والمنغصات الاجتماعية والثقافية وتفادي ظاهرة ‘الديمقراطية المبهرجة’ (Flashy democracy). ثانياً: تستدعي الضرورة القصوى أو العاجلة، سن قانون تاريخي وشجاع باسم ‘قانون الأرض’ في مملكة البحرين (الجزر والسواحل والفشوت) وإعادة ملكيتها للدولة. ثالثاً: تبديل معادلة الدولة/ الدين إلى شعار ‘الدين لله والوطن للجميع’ وعدم زج الدين بالسياسة وذلك من خلال سن قانون عصري لتشكيل أحزاب سياسية على أساس غير ديني/طائفي/مذهبي. رابعاً: تستدعي الضرورة تشكيل ‘هيئة تخطيط عليا’ مستقلة عن مجلس الوزراء، تأخذ على عاتقها التخطيط الاستراتيجي للبني التحتية الشاملة لمملكة البحرين. خامساً: تقنين الحد الأدنى التصاعدي للأجور، بما فيه قانون التأمين ضد البطالة، يلائم معدل التضخم السنوي المتصاعد باضطراد، الأمر الذي سيحافظ على القوة الشرائية لدى المواطن ولو في حدها الأدنى مما سيشكل مكسبا اقتصاديا / اجتماعيا. سادساً: سرعة انجاز وتنفيذ عملية دمج صندوقي التقاعد والتأمينات الاجتماعية وتقنين استثماراتهما، بكثير من الحيطة والحذر والشفافية والوضوح وذلك لأن هذا المال العام هو ثمرة تعب المواطن وشقائه طيلة حياته فله الحق والضمان في شيخوخته وعجزه. سابعاً: تفعيل شعار ‘تمكين المرأة السياسي’ فعلا وليس قولا أو بهرجة وذلك باستخدام آلية ‘كوتا’ مرحلية لتمثيلها النيابي والعمل الجاد على إنصافها التام وضمان ‘حقوق الأمومة والطفولة’ من خلال إصدار قانون متقدم للأحوال الشخصية. ثامناً: تستدعي الضرورة قيام تيار سياسي ديمقراطي عريض ( أصعب الأهداف واجداها)، يعيد التوازن السياسي في المجتمع مقابل الجمعيات السياسية )الطائفية/المذهبية) المعارضة والموالية المحافظتين، يتفق على برنامج الحد الأدنى وبلا شروط مسبّقة ويتكون من 7 جمعيات سياسية عصرية هي: التقدمي، وعد، التجمع القومي،التجمع الوطني، الوسط العربي، المنتدى والميثاق. تاسعاً: يجب أن يكون على رأس بنود البرنامج المقترح أعلاه، برمجة واستمرارية الضغط الشعبي / المدني/ القانوني/ الممنهج على الحُكومة وتعبئة الرأي العام خلف شعارات وملفات ممكنة التحقيق، من اجل تلبية المطالب الواقعية والعادلة وتنفيذ الاستحقاقات الاجتماعية والحقوقية المنطلقة جميعها من بنود الميثاق الوطني والدستور. عاشراً : يجب الابتعاد في الوقت الحاضر عن الملفات الأصعب منالا والحساسة للحكم والمؤججة للشحن الطائفي/ المذهبي والانقسام الشعبي، انطلاقا من ميزان القوى وحسابات الربح والخسارة في العمل السياسي. الحادي عشر: يجب اختيار المكان والزمان المناسبين للاحتجاجات المدنية الجامعة/السلمية/القانونية (public civil protest) بُغية جذب المواطن العادي وإشراكه في الحراك السياسي المتاح وعدم الانزلاق إلى وضع العصيان المدني (insurgence) والمشاركة مع طيف متنوع (قوس قزحيّ) يتكون أساسا من الجمعيات السياسية المذكورة أعلاه بجانب منظمات المجتمع المدني الأخرى من نقابات وجمعيات أهلية ونسائية وحِرَفية والشخصيات التقدمية المستقلة إضافة إلى العناصر المستقلة من المتنورين الدينيين المعتدلين. الثاني عشر: يجب على التيار الديمقراطي/ الحداثيّ النأي بنفسه عن فعاليات التيارات المغامرة والعدمية، التي لم تتعلم أية لغة بعد، غير العناد والعاطفة المفرطة وسياسة الأبيض أو الأسود وعدم تفهمها من أن الوصول إلى أكل العنب لا يتحتم بالضرورة قتل الناطور. الثالث عشر: يجب أن تدرك النُخب السياسية (للمرة الألف) أن الركون إلى الضغط الشعبي القادم من طرف واحد والاعتماد على رافعة الطائفية، بُغية نيل الحقوق لا يجدي ولا يسمن من جوع، بل يزيد الطين بلّة في ‘طأفنة’ الوجدان والوعي السياسي للناس ويهدر الطاقة الكامنة للمواطنين ويشتت وحدة النسيج الوطني ويؤخر الاستحقاقات الديمقراطية ويطيل من أمد عوائق تفعيل دولة المؤسسات والقانون. الرابع عشر: يجب الاستفادة من أية إمكانية لبناء الثقة المتبادلة والضرورية بين الحكم والقوى السياسية بالتوافق على سلسلة من الإجراءات من بينها -على سبيل المثال- الاتفاق على ‘يوم الشهيد’ في وقت آخر، مناسب لجميع الأطراف، لا تتضارب مع الأعياد الرسمية. هذا ‘شيء من الرؤية’ التي يفترض أن تكون حاضرة في أذهان الحريصين على إخراج بلدنا ومجتمعنا من الجحيم الطائفي/المذهبي والفوضى الـ ‘شبه الخلاقة – mini innovated chaos” التي تنخر في نسيجنا الاجتماعي والذي يتطلب أول ما يتطلب من أصحاب القرار والنخب السياسية، الإحساس بالمسؤولية الوطنية والترفع عن الصغائر والابتعاد عن الجشع والأنانية والمجد الشخصي، في سبيل مستقبل الأجيال القادمة.
صحيفة الوقت
26 فبراير 2008