ليس للمرء إلا أن يفغر فاه مندهشا عندما يسمع أن بلدا اشترى طائرات عسكرية واستخدمها بعض الشيء ثم قرر فض الصفقة وإعادة الطائرات إلى البلد المصنع الذي قبل الصفعة. حدث هذا لأول مرة في تاريخ العلاقات التجارية والعسكرية التقنية الدولية. أثناء زيارة الرئيس الروسي بوتين للجزائر في مارس/ آذار 2006 وقعت صفقة بقيمة 286,1 مليار دولار لتزويد الجزائر بـ 28 طائرة ذات مقعد واحد من طراز ‘ميغ – 29 س م ت’ وست قادفات ذات مقعدين من طراز ‘ميغ – 29 أو ب’ في إطار حزمة التعاون العسكري التقني بين البلدين والتي بلغت قيمتها نحو 8 مليارات دولار. وبمناسبة هذه الصفقة أعفت روسيا الجزائر من الديون المتبقية عليها منذ الاتحاد السوفييتي والبالغة 7,4 مليار دولار. لكن الجزائر توقفت عن استلام الدفعات الأخيرة من الطائرات. وفي السادس من الشهر الحالي اتفق البلدان على إعادة 15 طائرة من طراز ‘ميغ’ التي استلمتها الجزائر بين العامين 2006-.2007 لكن الأمر لم يصل إلى حد إلغاء الصفقة برمتها. فبدلا من الطائرات المعادة ستتسلم الجزائر أخرى من طراز ‘ميغ – 29 م’2 و’ميغ -’35 الأكثر حداثة أو تقنيات أخرى لا تتعلق بالطيران. حدث ذلك قبيل زيارة الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة التي تمت لموسكو الثلثاء الماضي. على أن الاضطراب أصاب التعاون في مجالات أخرى أيضا. في أغسطس/ آب 2007 أعلنت وزارة الطاقة الجزائرية عن وقف العمل بموجب مذكرة التفاهم حول العلاقات المتبادلة بين ‘غازبروم’ الروسية و’سوناطراك’ الجزائرية فاهتزت الأسس الحقوقية للتعاون في استخراج المواد الكربوهيدراتية وإنتاج الغاز المضغوط في الجزائر. وعليه فإن الخبراء الجادين لا يربطون أزمة الطائرات بمشكلات تتعلق بالجودة، بقدر ما يتعلق الأمر بمشاكل سياسية داخلية جزائرية واستراتيجيات دولية تتعلق بمصير شمال إفريقيا ومنطقة المتوسط. لقد أصبحت صفقة ‘ميغ – ’29 ورقة في الصراعات السياسية الداخلية الجزائرية. الرئيس بوتفليقة ينوي الترشح لفترة رئاسية ثالثة. أما المناهضون له فيستخدمون أزمة ‘ميغ -’29 للنيل من نفوذ قائد الأركان صلاح أحمد الموالي للرئيس. بعد انتهاء الحرب الداخلية في الجزائر ضعف تأثير العسكريين على الرئيس. وبعد أن ارتفعت أسعار النفط على مدى السنوات الماضية تحولت الجزائر من بلد فقير يعتمد على قرارات العسكريين السياسية إلى بلد فقير بحكومة غنية. وفي هذا الوضع كما يرى المدير العام لمشروع ‘روس أفرو إكسبرتيز’ العلمي الروسي أندريه ماسلوف فإن ‘الذي أصبح يتخذ القرار السياسي ليس العسكريون، بل ‘سونطراك’ ووزير الطاقة والصناعات الاستخراجية شكيب خليل الميممين وجوههم شطر الولايات المتحدة. أما التعاون الجزائري الروسي فسيبدو بهذا المعنى لعبة على مستوى آخر تماما[1]’. وفي حين رأى خبير المركز الروسي لتحليل الاستراتيجيات والتكنولوجيات قنسطنطسن ماكيينكو ‘أن الاختراق الروسي للجزائر في العام 2006 أحدث رد فعل هائل من جانب الفرنسيين، وتعاظمت بشكل خاص بعد وصول الرئيس ساركوزي إلى السلطة[2]’، فإن ماسلوف يشير إلى بعد كوني أعمق محتوى. ‘فبما أن فرنسا في الوقت الراهن حليف مقرب من الولايات المتحدة في إطار حلف شمال الأطلسي، بينما موسكو البعيدة تتوجه أكثر فأكثر نحو المحيط الهادي ومنطقة الشرق الأقصى، فإن الجزائر تفضل الطائرات المقاتلة الفرنسية من طراز ‘رافال- Rafale’ على ‘الميغ’ الروسية[3]’. كما أن حكومة ساركوزي تعد مشروعا محددا للتكامل مع بلدان شمال إفريقيا، بما فيها الجزائر. يحمل هذا المشروع اسم ‘الاتحاد المتوسطي’. وينظر جيران فرنسا الجنوبيين في شمال إفريقيا إلى هذا المشروع باعتبار أنهم سيحصلون من خلاله على الاستثمارات الضرورية لتطوير البنية التحتية لصناعة النفط والغاز وعلى الدعم المالي من قبل جيرانهم الأوروبيين. أما فرنسا فسوف تتمكن من تحويل شمال إفريقيا إلى قاعدة خامات محتكرة من قبلها، وبذلك تنوع مصادرها من مواد الطاقة. وتعول فرنسا في توجهاتها الحالية على فضاء ‘فرنسا – شمال إفريقيا’ الإقليمي الذي كان واقعا قائما منذ زمن الاستعمار. هناك من يرى أن ثمة أسبابا إضافية أخرى تفسر لماذا ترى فرنسا في هذا الاتحاد ضرورة حياتية؟ وعرب شمال إفريقيا مستعدون للتضحية باتفاقاتهم المبرمة مع روسيا ودول أخرى مقابل التوجه نحو التحالف المتوسطي؟. نعود إلى ماسلوف ثالثة: ‘إن فرنسا تعي بشكل موضوعي أنها ستصبح في نهاية المطاف بلدا عربيا مسلما (…)، ولهذا فإن السلطات الفرنسية قد اتخذت على الأرجح قرارا بأن تصبح دولة إثنية أفرو- عربية بلغة وثقافة فرنسيتين’. مدركا هذه التحديات، تساءل الرئيس بوتين في خطابه الترحيبي بالرئيس بوتفليقة عن ما الذي جعل البلدين يحققان في العام 2006 نجاحات في علاقاتهما الثنائية أكثر مما حققاه العام 2007؟ وأجاب: ‘على الأرجح هناك أسباب لدى الطرفين[4]’. وبصراحة أيضا أشار بوتين إلى أنه لا يرغب أن يرى بلاده العام 2012 في وضع معقد في السوق الجزائرية عندما سيتم إنشاء منطقة التجارة الحرة بين الجزائر والاتحاد الأوروبي. ودعا الجزائريين إلى تعاون أوثق في مجالات الطاقة والنفط والغاز. ومع ذلك فإن للعلاقات الروسية الجزائرية جذورها التاريخية التي شجعت على إعطاء الرئيس الجزائري الأسبق أحمد بن بللا وسام بطل الاتحاد السوفييتي، وأن تكون زيارة بوتفليقة الأسبوع الماضي لروسيا هي السابعة من حيث العدد، كما أن الرئيس بوتين زار الجزائر العام الماضي. ولدى روسيا الكثير الذي يمكن أن تقدمه في تطور العلاقات الثنائية ما يبقي على آفاق استراتيجية أمامها. وذلك يستحق مزيدا من المتابعة.
[1]،[3] راجع تصريحات ماسلوف على الرابط:
http://www.rbcdaily.ru/2008/02/19/focus/323023
[2] صحيفة ‘كمرسانت’ الروسية، 18 شباط/ فبراير .2008
[4] يمكن مراجعة تصريحات بوتين على الرابط:
http://www.smi.ru/08/02/20/908356649.html
صحيفة الوقت
25 فبراير 2008