لا تخطئ العين، ولا السمع يخطىء، ردود فعل الكثير من العرب على ما يعدونه نصراً مبيناً للمسلمين، بإعلان استقلال كوسوفو، الذي لم يروا فيه أكثر من قيام دولة إسلامية جديدة، وفي أين: في أوروبا، معقل الغرب النصراني، وفي رواية أخرى الكافر. هؤلاء يتجاهلون انه لولا هذا الغرب النصراني، أو الكافر، لما قُيض لأهالي كوسوفو المسلمين إعلان استقلال إقليمهم في دولة، دون أن يكلف هؤلاء المبتهجين أنفسهم عناء السؤال: لماذا الغرب المنبوذ عندهم، يُبدي كل هذه الحماسة لقيام دولة في كوسوفو؟ في الحوار الشهير بين جان “يغلر وريجي” دوبريه، والذي نُشر في كتابٍ صدرت له ترجمة باللغة العربية، نبّه الأول إلى حقيقة أن العولمة بمقدار ما وحَدت العالم، وقّربت المسافات بينه، موظفةً الثورة الهائلة في وسائل الاتصال، الا أنها تحمل في جوهرها سمةً نقيضةً، فهي ذاتها، من يقف وراء تشظي العالم إلى كيانات أصغر، والى ثقافات وملل وطوائف متنازعة، متصارعة. في كلمات أخرى: فان العالم يزداد تشظياً بمقدار ما تأخذه العولمة نحو المزيد من الترابط والتداخل. يحضر هذا القول ونحن نتأمل إعلان استقلال إقليم كوسوفو عن صربيا، كأن دائرة تقسيم الاتحاد اليوغسلافي السابق تستكمل ما تبقى لها من فصول، بتقسيم مكونات هذا الاتحاد نفسه، ليتحول كل واحدٍ منها إلى مجموعة كيانات أصغر فأصغر. الولايات المتحدة التي ما زالت تعيق قيام دولة وطنية مستقلة للفلسطينيين من خلال الدعم المفتوح الذي تقدمه للسياسات الإسرائيلية الموجهة نحو الحيلولة دون أن تظهر هذه الدولة للوجود، تبدو اليوم في مقدمة المشجعين والمتحمسين للاستقلال الكوسوفي، ولأن يكون لسكان الإقليم دولتهم، ومثلها تفعل دول أوروبية كثيرة، لم نلمس منها أقل القليل من هذه الحماسة لدعم قيام الدولة الفلسطينية. لماذا لا يصح على الفلسطينيين ما يصح على سكان كوسوفو؟! بل انه في حال الفلسطينيين فان هناك سلسلة من القرارات الدولية، بما فيها قرار تقسيم فلسطين نفسه، تنص صراحة على أن يكون للفلسطينيين دولتهم الوطنية المستقلة كاملة السيادة. لماذا لا تُظهر واشنطن، ومعها حليفاتها من العواصم الأوروبية، بعض الحرص على أن تجد هذه القرارات الدولية طريقها لأن ترى النور، وهي ترى عُظم وفداحة المعاناة الفلسطينية المستمرة منذ نحو ستين عاما، وبشكل يومي؟! على بعض غلاة الفرحين بيننا باستقلال كوسوفو، أن ينظروا أبعد ليس إلى إعلان الكوسوفيين أنفسهم لدولتهم، وإنما للمباركة الدولية الواسعة لهذا الإعلان. باعث هذه المباركة ليس الحب الفائض لسكان الإقليم المسلمين، وإنما هو الرغبة في أن يروا الجزء الأوروبي القريب من العالم الإسلامي، وهو يتشظى إلى كيانات صغيرة. لذلك أسباب عدة. فالبلقان المقسم إلى كيانات صغيرة هو بروفة لروسيا مقسمة كي لا تقوم لها قائمة مرة أخرى، ولأن الأمر يعنينا، فان دولة كوسوفية مستقلة تحظى بكل هذا الترحيب، قد تكون مقدمة “استقلالات” قادمة حوالينا، لن تنتج عنها سوى دويلات للطوائف والمذاهب.
صحيفة الايام
25 فبراير 2008