المنشور

فضاء لن‮ ‬يعُد حراً

ليست قليلة المرات التي كُتب فيها نقد لاذع للفضائيات العربية، التي يتكاثر عددها تكاثر الفطر. أوجه النقد تطال الدور الذي تؤديه هذه الفضائيات في تسطيح الوعي وتزييفه لدى ملايين المشاهدين، الذين يتلقون في اليوم الواحد جرعات فائقة على الحد من المادة الإعلامية التي تخاطب الغرائز لا العقول، وتتوسل، في برامجها، الحسي والمبتذل لا ما يرتقي بالذائقة ويطور المعرفة . وتنتشر في السنوات الأخيرة ظاهرة الإعلام الطائفي والمذهبي، الذي يحرض ما هو راسخ في الطبقات السفلى من تفكير العامة، مشجعاً ما هو مفرق، ومُغيباً لما هو موحد في مجتمعات يواجه نسيجها الوطني مخاطر التفتيت والتمزق غير المحسوبة. وتسهم غالبية الفضائيات العربية في تسطيح الوعي وتزييفه، ويتحول الكثير منه إلى وسيلة لمصادرة المعرفة عبر تسويد الجهل وتعميمه، على النحو البديع الذي صورته إحدى حلقات المسلسل السعودي الشهير “طاش ما طاش”، بثت في أول ليلة من ليالي شهر رمضان الماضي. لكننا لا نحسب أن هذه المحاذير هي ما يقف خلف الوثيقة التي انتهى إليها مجلس وزراء الإعلام العرب في اجتماعه الخير في القاهرة. وضعت الوثيقة ضوابط تلتزم بها جميع المحطات الفضائية العربية، بحيث يتم التوقيع عليها، باعتبارها، ملحقاً للعقد المبرم بين المحطة والدولة مانحة الترخيص، دون استثناء للمناطق الحرة، مع إقرار عقوبات محددة في حالة مخالفة هذه الضوابط، تبدأ بإنذار المحطة ومصادرة المعدات والأجهزة المستخدمة، وفرض غرامات مالية كبيرة وتصل لإلغاء ترخيصها نهائياً. المهتمون بالحريات العامة، خاصة حرية التعبير بما تشمله من حرية وسائل الإعلام، حذروا من أن الهدف الرئيسي لذلك هو مصادرة النقد الذي يوجه للأداء السياسي للحكومات العربية المختلفة، وهو النقد الذي يجري النظر إليه بوصفه منجزا رئيسيا تحقق بفضل أن الفضاء بات يتسع لآراء مختلفة، بعد أن كان الإعلام العربي مقتصراً على وجهة النظر الرسمية. الفضاء المفتوح أتاح للمشاهد العربي ألا يكون أسيرا لتلفزيون بلاده وحده، حين يتعين عليه، مجبرا، تحمل تلك الجرعات الزائدة من التضليل والتلميع والنفاق، وبات بوسعه عبر “كبسات” خفيفة، رشيقة، أن يتنقل، حراً، من محطة إلى أخرى.  وهو أمر يعني أن هذا المشاهد بات عصيا على السيطرة في اختياراته لما يشاهد، وهذا ما يراد وضع حد له. “عليك أن تشاهد ما نوافق نحن على أن تشاهده” – هذه هي الرسالة الإعلامية العربية التي يراد إيصالها. وثيقة الضوابط تضمنت عدداً من التعبيرات الفضفاضة والعامة القابلة للتأويل الواسع، الذي يمكن أن يجعل من أية مادة لا تروق لدولة أو لأخرى سببا للتضييق على الفضائية المعنية والعاملين فيها، وربما إلى إغلاقها نهائيا، وهو ما يناقض القاعدة التي استقر على العمل بها دوليا، وهي أن الأصل في الحرية هو التوسيع لا التضييق، الذي لا يجب أن يكون إلا عند الحدود الضرورية. تلزم الوثيقة الدول الموقعة بوضع الإجراءات اللازمة في تشريعاتها الداخلية لمعالجة حالات الإخلال بمبادئها، وهو ما يفهم منه أن تدابير ماسة بجوهر حريات التعبير آتية لا ريب فيها، ما علينا سوى انتظارها.
 
صحيفة الأيام
24 فبراير 2008