أخيرا أعلن الزعيم الكوبي فيدل كاسترو تنحيه عن السلطة عن عمر يناهز الـ82 عاما بعد حياة سياسية طويلة صاخبة قضى نحو نصف قرن منها متربعا على قمة السلطة السياسية في كوبا. وبتقاعده عن مهامه القيادية في السلطة يسدل الستار على واحد من جيل القادة الكارزميين في العالم الثالث الذين برزوا خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي إلى جانب نهرو وتيتو وماوتسي تونج وجمال عبدالناصر. وبالرغم من انه كان حينذاك اصغرهم في السن، فإنه كان اطولهم مكوثا في السلطة، ولربما يكون واحدا من قلة من الحكام في القرن العشرين الذين ضربوا رقما قياسيا في هذا المكوث بالسلطة، وهي فترة ناهزت كما ذكرنا نصف قرن. ولعل من التبسيط المخل بالأمور تفسير تمكن كاسترو من البقاء الطويل في السلطة لمجرد أن نظامه كان نظاما دكتاتوريا يحكم بالقبضة الحديدية، فالرجل كان شئنا ام ابينا قائدا شعبيا محبوبا في اوساط شرائح وفئات واسعة من شعبه، عدا انه كان يحظى بجاذبية وشعبية عالمية، وبخاصة في أوساط شعوب العالم الثالث التي كانت تموج بحركات التحرر والثورات الشعبية العارمة الهادفة إلى الانعتاق من الاحتلال والهيمنة والاستعمار والاحتلالات الاجنبية الغربية، وبخاصة بالنظر الى ما قدمته الثورة الكوبية من دعم هائل متعدد الأشكال السياسية والاقتصادية والعسكرية والعلمية لكل تلك الحركات الوطنية والتي كان من ضمنها كما نعلم، الثورة الفلسطينية. أما على الصعيد المحلي فقد كان النظام الكوبي، وبالرغم مما يتصف به من شمولية واحادية في السلطة، هو من الأنظمة «الاشتراكية« القليلة في العالم الذي حقق مكاسب سياسية واجتماعية وصحية وعلمية ملموسة لواحد من افقر شعوب منطقة الكاريبي، وهي مكاسب شهد ومازال يشهد بها اعداؤه قبل ان يشهد بها اصدقاؤه. لكن هل كان هذا القائد الثوري الذي ملأ الدنيا وشغل العالم على امتداد نصف قرن بحاجة الى هذا المشهد المهين في التخلي عن السلطة وهو في ارذل العمر وأوهن الصحة على مقربة من شفا حفرة قبره؟ أما كان تنازله الطوعي عن الحكم ولو قبل سنوات معدودة وهو في ظل سلطة الحزب الواحد الشمولي أجمل وابهى بمكانته الشعبية والثورية داخل كوبا وعلى الساحة الدولية عامة وهي المكانة التي ظل محتفظا بها على امتداد ما لا يقل عن اربعة عقود؟ لقد كان الزعيم فيدل كاسترو الذي تمكن بنظامه من ان يصمد في وجه قلعة الرأسمالية العالمية، امريكا، وحيث بلاده على مرمى حجر من حدودها، وان يفلت من محاولات أمريكية عديدة لاغتياله أو لإسقاط نظامه طوال حكم عشرة رؤساء أمريكيين عاصرهم ولم يعاصره أغلبهم، وان يتغلب ايضا على اطول واعتى حصار اقتصادي ومعيشي وصحي تضربه الولايات المتحدة على دولة في العالم.. كان كاسترو هذا يشكل مع رفيق دربه تشي جيفارا ايقونة واحدة ذات وجهين تداعب الاحلام الثورية الرومانسية لأجيال متعاقبة من طلاب وشبيبة العالم بأسره، ولاسيما بين شعوب العالم الثالث الواقعة تحت نير الاستعمار الكولونيالي والاحتلالات الاجنبية أو تحت نير الانظمة الاستبدادية الاستغلالية العميلة للغرب والولايات المتحدة.. فارتبط بالتالي اسماهما ببعضهما ارتباطا لا ينفصم فاذا ما ذكر جيفارا قفز الذهن على الفور الى كاسترو والعكس صحيح. وكان جيفارا الذي استشهد في ذلك المشهد التراجيدي المأساوي المفعم بالدلالات وهو يقاتل قوات النظام البوليفي الدكتاتوري الفاسد والحليف للولايات المتحدة، وهو الذي شارك كاسترو في قيادة الثورة الكوبية والانتصار على حكم باتيستا الاستبدادي، كان جيفارا هذا واحدا من اكثر القادة الثوريين تجردا واخلاصا لمثله ومبادئه الوطنية والثورية، بصرف النظر هنا عن كيفية تقييم الطريق والاسلوب الذي اختطه لتحقيق تلك المثل والمبادئ على المستوى العالمي الأممي، فلقد ترك وطنه في سبيل نشر افكاره الثورية ومساعدة حركات التحرر في العالم من اجل التخلص من الجبابرة الاستبداديين والطغاة، ومن أجل التحرر من الاحتلال والاستعمار الأجنبي. وبعد ان انتصرت الثورة الكوبية بزعامة كاسترو وعين جيفارا وزيرا للصناعة في كوبا ثم وزيرا للمصرف المركزي وكان حينها بمثابة الرجل الثاني بلا منازع في القيادة الكوبية شعر بالاختناق من وجوده في السلطة حتى رغم علمه بنبل المهام والمسؤوليات الوطنية والثورية المكلف بها وهو في السلطة فسرعان ما تاق بشدة الى هوايته النضالية الاحترافية الاصلية الآممية لتقديم المساعدة المباشرة الى حركات التحرر والبؤر الثورية التي هي في مسيس الحاجة الى الدعم الخارجي فاتجه أولا إلى الكونغو بغرض تكوين ميليشيا شعبية ثائرة لكنه فشل في ذلك، ثم حط الرحال في بوليفيا، حيث تمكن من تكوين فرق ثورية من الفلاحين والعمال للتحضير للثورة المسلحة لكنه لقي مصرعه برصاص الجيش البوليفي في ادغال ذلك البلد بدعم وتخطيط مباشر من المخابرات المركزية الامريكية. وبالرغم من مضي اكثر من 40 عاما على استشهاده فإن صورته في مخيلة شباب العالم الثائر الحالم بغد أفضل سعيد ظلت رمزا للطهارة والبطولة والنقاوة الثورية والتجرد والتفاني ونكران الذات في سبيل الدفاع عن المثل العليا.. والاهم من ذلك فان هذه الصورة ازداد تعلق شباب العالم بها خلال السنوات الاخيرة في زمن الانكسارات الثورية وتغول الهيمنة الامريكية وتسيدها على الساحة الدولية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. لكن من الصعوبة بمكانة القول إن هذه الصورة لكاسترو ستظل هي الصنو أو الوجه الآخر للأيقونة الواحدة «جيفارا – كاسترو« ذلك أن هذا الرجل الاخير وبذلك المشهد المثير للاشمئزاز والشفقة معا، بتنازله عن السلطة وهو في ارذل العمر والصحة وهو على فراش الموت وكأنه يمسك بكرسي الحكم بكل اسنانه، ساهم بقصد أومن دون قصد في اهتزاز الوجه الآخر للأيقونة المقدسة المزدوجة. لقد كان يمكن تفهم صعوبة ادراك الرجال ان يهضم بين عشية وضحاها معاني التغيرات الفكرية ورياح التغيير الكبرى التي عصفت بالعالم منذ مطلع التسعينيات والآخذة باتجاه تبني شعوب العالم الثالث لمبادئ الديمقراطية والتعددية وإقامة الانظمة الدستورية المنتخبة انتخابا ديمقراطيا حرا، لكن ان يتنازل عن السلطة وهو يصارع الموت على فراش المرض منذ سنوات فهذا ما لا يمكن فهمه وان تؤول السلطة وكأنها وراثية إلى اخيه راؤول فهذا ما لا يمكن فهمه أيضا إلا باعتباره نزعة اصلية متجذرة من نزعات مرض الفكر الشمولي والنرجسية الذاتية ايا يكن سمو مبادئ هذا الفكر وايا تكن عظمة ما حققه نظامه من انجازات. وكم كان جميلا لو انه تحين التوقيت المناسب لهذا التنازل، في اواخر التسعينيات فاختاره مثلا غداة الذكرى الاربعين للثورة (1999) وحيث لايزال في كامل طاقته وصحته (75 عاما حينذاك).. لكن نزعة ادمان السلطة والقيادة لطالما تتغلب على رغبة اختيار التوقيت المناسب المبكر للتخلص من ذلك الادمان.. وتلك هي مأساة اهتزاز الوجه الآخر للأيقونة الواحدة المزدوجة.
صحيفة أخبار الخليج