هناك أحداث وقضايا لا يستطيع المرء أن يمر عليها مرور الكرام لأنها مملوءة بالدلالات الكبيرة، وتثير كمًّا من التساؤلات وعلامات الاستفهام واحدة تلو الأخرى، وكلها تصب فيما يمكن أن يكون موضوعاً عنوانه “عافية المجتمع” ولعل نموذجاً لذلك، اللغط الجاري الآن حول فساد مالي واداري ومخالفات ادارية صارخة منسوبة إلى بعض العاملين في وزارة شؤون البلديات، من الأسماء الرنانة ممن يتبوأون مواقع قيادية رفيعة.
بعض ما نشر حول هذا الموضوع مهم وخطير، لا لأنه يوجه أصابع الاتهام إلى مسؤولين كبار بعينهم في الوزارة متهمين بالتربح من وظائفهم ويمارسون تجاوزات وانحرافات ادارية صارخة تدخل في اطار استغلال المنصب وتعارض المصالح بدءاً بتأسيس شركات بأسماء زوجاتهم، وفرضوا على الوزارة التعامل مع هذه الشركات منذ عام ٤٩٩١ حتى اليوم، ولا لأن شقيق زوجة مسؤول كبير بالوزارة معروف بأنه مرتشٍ وطالب عمولات، ولا عن أسباب تغييب المحاسبة والرقابة، ولا أي شيء من هذا القبيل مما نشر وقيل عن هذا الذي جرى ويجري في وزارة البلديات، فتغلغُل قيم الفساد وممارساته وسلوكياته ليس حصراً على هذه الوزارة، وواقعنا لم يخل لحظة من الفساد والمفسدين والمرتشين في مؤسسات رسمية عديدة، وكلنا يعلم ويستشعر اتساع دائرة الفساد وتشابك حلقاته وترابط آلياته بدرجة لم يسبق لها مثيل للأسف.
ولكن الأخطر من ذلك حينما يحتمي الفساد ويتحصن الفاسدون بمن يفترض أنهم أكثر الناس ابتعاداً عن أي شبهة، والأكثر التزاماً بالقانون، والأكثر دفاعاً عن حرمة المال العام، والأكثر ارتباطاً بالرقابة عليه وحمايته، والأكثر حرصاً على المصلحة العامة ورعاية مصالح الناس، من نواب أو كتل نيابية، أو جمعيات، أو أشخاص في مواقع رفيعة من المسؤولية والسلطة، قدموا السند واسبغوا الحماية على الفاسدين، معتبرين إياهم مواطنين صالحين..!! هذا إن لم يقيموا لهم حفلات تكريم أو ما شابه، دونما أدنى اهتمام بواجب أو بتصدٍ لفساد وانحراف.
والأخطر من ذلك أيضاً حينما يصوب بعض النواب، أو كتلهم النيابية السهام إلى مسؤولين دون آخرين أو يسلطون الضوء على انحرافات بذاتها، وغض الطرف عن انحرافات أخرى مماثلة أو أشد جسامة، – والصورة على كاريكاتوريتها – مؤلمة جداً يزيدها إيلاماً ليس فقط إعلاء منطق الزمرة والشللية وتسييد التفضيلات والمزاجات والانتقاءات المعيبة والرديئة التي غيبت، بل اغتالت معايير الكفاءة والنزاهة في كثير من مواقع العمل والمسؤولية، وأبقت بعضاً من القيادات المسؤولة رغم فشلها في مواقعها بثبات مدهش وبات معروفاً عنها أنها محصنة ضد المساءلة، ناهيك عن التغيير، وإنما هذا الذي يزيد الصورة إيلاماً – هو أن كثيراً من النواب دأبوا علـى “طأفنة” كل طرح، وكل موقف، وكل مشكلة، ومشوا في طريق “تلغيم” أي عمل لا تصب جدواه في “طبخاتهم” ما دام مطروحاً من الآخر، وحتى الاستجوابات النيابية اصطبغت بنفس طائفي مقيت، وهذه حقيقة مؤسفة من المصلحة أن نعترف بها، وأن لا نقع في فخ التهوين منها.
والمرجو الآن ألا يفسر هذا الكلام بأننا في موقف الدفاع عن أي من الأطراف ذات العلاقة بفساد “البلديات” أو أننا في وارد تأييد أو رفض الكلام الذي نشر رغم خطورته، طالما أنه قد تم تشكيل لجان تحقيق فالمرجو الا تكون هذه اللجان ككثير من لجان التحقيق التي شكلت في العديد من الوزارات والمؤسسات والهيئات لتقصي حقائق أو انحرافات معينة، ولكن دونما نتيجة، أو قرار وكأننا على موعد دائم مع العبث.
واذا كنا نستغرب ما نشر قبل أيام منسوباً الى “مصادر مطلعة” من هذه اللجان بأنها ستحقق مع الموظفين بدءاً بالدرجات الوظيفية الأدنى كالسائقين، فذلك إن صح بداية غير مقنعة، بقي أن نقول إن النموذج الذي تقدمه هذه الحالة أنها تفتح أكثر من ملف، يتصل إجمالاً بالأداء النيابي، وكل ملف هو أهم من الآخر، ولا أظن أن من الحكمة أن نستمر في مقابلة هذه الملفات بالصمت، أو التجاهل، أو التهوين، منها ومن الألغاز المحجوبة مفاتيحها عنا. من ضمن هذه الملفات جنوح بعض النواب وكتلهم النيابية نحو ترسيخ “طأفنة” العمل النيابي من خلال الخلل الواضح في تصرفات ومواقف وأقوال وتصريحات وأفعال هؤلاء النواب، ودونما الدخول في التفاصيل – الآن على الأقل – فإننا نرى أن هذا أمر لا يخفى على من يتمتعون بموهبة التقاط الإشارات، بخاصة الإشارات الحمراء ويحسنون رصد اتجاهات الريح. هذا هو الملف الأول.
أما الملف الثاني فهو إصرار بعض النواب على إقحام أنفسهم ودس أنوفهم في كل شاردة وواردة ويفتون في كل شأن في حياتنا، وهو أمر يحيرنا حقاً، خاصة عندما يصر هؤلاء النواب على أن يبرزوا وكأنهم نواب مناطق، أو طائفة لا نواب شعب، يفتعلون معارك، ويتبنون مواقف وأفكار غير رصينة تتسم بالتأويل والتأويل المضاد ومعان مستترة، وخلط واضح للأوراق والملفات وكأنهم يريدون أن يُشكل الواقع السياسي على أساس ذلك..!
أما الملف الثالث فهو مليء بحكايات كثيرة ولغط لا حصر له حول نفر من النواب، وكتل نيابية فرضت، وتستمر في محاولات فرضها بعض الوجوه المحسوبة عليها أو المنتمية إليها أو المؤيدة لها أو المسنودة منها في مواقع قيادية مسؤولة، على أسس تغيب وتغتال فيها المعايير، وتبرز فيها الاعتبارات المذهبية والطائفية والمحسوبية التي أصبحت الأكثر وضوحاً للفرز والانتقاء والاختيار، مؤكدين أنه ليس هناك نواب بعينهم، أو كتل بعينها هي وحدها فقط المعنية أو المتهمة بهذا الفرض، وإنما ما يجري وما نلمسه بأن السمة هي الأكثر تجلياً في سلوك كثير من النواب من خلفيات وبواعث من الواجب والمصلحة أن ينأى كل النواب دون استثناء عن طرحها وإثارتها بشكل يثير السخط والاستياء والإحباط،
لأن هؤلاء النواب بذلك ينتجون الفرقة، ويكرسون الانقسام عن علم أو غير علم، عن قصد أو غير قصد، ولن نتصور نجاحاً ولا إنجازاً لنوابنا على صعيد تطوير الأداء النيابي، أو على صعيد محاربة الفساد، وحتى فيما يخص التعاطي بكل جرأة مع تقارير ديوان الرقابة المالية، وغير ذلك من المواضيع والقضايا، طالما بقيت تلك الملفات التي تتكامل وتتشابك فيما بينها ومع غيرها من الملفات، عالقة، واذا استمر حال نوابنا على ما هو عليه، استمرت شؤوننا وأوضاعنا تدار بالطريقة والعقلية الراهنة.
صحيفة الأيام
22 فبراير 2008