للمسرحي الألماني الشهير بروتولد بريخت مسرحية شهيرة بعنوان: “القائل لا.. القائل نعم”، ولأشد ما ينطبق الجزء الأول من عنوان المسرحية على الزعيم الكوبي فيدل كاسترو الذي حوله اختلف وسيختلف المختلفون، والذي رغم كل ما عصف بالعالم من تحولات لم يشأ أن يتزحزح عن كلمة: “لا” بوجه القوة الدولية الأعظم في العالم. حتى الكوبيون أنفسهم انقسموا في الموقف منه، ففي ميامي التي بالكاد تقع على بعد أميال قليلة خلف البحر، الذي يفصل بين الولايات المتحدة وكوبا تعيش جالية كوبية، أو من أصل كوبي، اختارت من هناك أن تناوئ نظام فيدل كاسترو، بدعم لا تخطئه العين من الإدارات المتعاقبة في الولايات المتحدة ومن الاستخبارات الأمريكية التي وضعت نصب عينيها هدف إسقاط نظامه. لكن ليس بوسع أحد أن يجادل أن الرجل هو من أهم شخصيات القرن العشرين، والذي صمم على أن يلج بكوبا القرن الحادي والعشرين، وهي لما تزل تدار من قبل نظام اشتراكي، بعدما انهارت الاشتراكية في أوروبا، ورسمت لنفسها في الصين مساراً مختلفاً، مطعماً بعناصر اقتصاد السوق. حتى أشد خصومه كراهية له لا يستطيعون إغفال أنه رجل آمن بمبدأ لم يحد عنه رغم الصعوبات، ورغم الحصار الاقتصادي الذي أرهق كوبا وشعبها، وازدادت وطأته بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ومنظومة الدول الحليفة له في المحيط الأوروبي الشرقي. وفي الوقت الذي سعى السعاةُ على بقاع الأرض المختلفة للتفاهم مع الولايات المتحدة التي هيمنت على العالم منفردة، فإن كاسترو ظل مناوئاً لها بذات العناد الذي كان عليه. ليست مصادفة، والحال كذلك، أن الاستخبارات الأمريكية اعترفت بتدبير أكثر من ستمائة محاولة لاغتياله، وعلينا تصور كيف أن القدر كان حليفه، طالما استطاع أن ينجو من كل تلك المحاولات. سيدخل كاسترو التاريخ أيضاً بوصفه رمزاً من رموز التحدي في أوج الحرب الباردة، حين اتفق مع الزعيم السوفييتي الأسبق نيكيتا خروتشوف على نصب صواريخ برؤوس نووية على الأراضي الكوبية، كادت أن تدفع يومها إلى مواجهة ذرية. الرجل الذي شغل العالم نصف قرن من الزمن إلا قليلاً، غادر المسرح السياسي حين أعلن لشعبه تنحيه عن السلطة. وبمنطق العمر فإن المسافة الفاصلة بين تنحيه عن السلطة وبين رحيله عن الدنيا لن تكون طويلة. لكن طيفه سيظل حاضرا في الجزيرة التي تآلفت مع وجوده كل هذا الزمن، ليس فقط لأن خليفته ليس إلا شقيقه راؤول الذي لم يكن مجرد ظلٍ له، وإنما أيضا كان له دور، رغم انه أصغر منه سنا، في الأخذ بفيدل نحو الأفكار الماركسية، وإنما أيضا لأن آثار رجال بوزنه لا يمكن أن تزول بالسرعة التي يتوقعها خصومه الكُثر في الخارج، الذين أعياهم الانتظار وهم يتطلعون إلى أن يروا كوبا وقد غاب عنها الرجل الذي أرّقهم طويلا.
صحيفة الأيام
21 فبراير 2008