المنشور

اختبروا القداسة أيضاً‮!!‬

لا شك أن لرجال الدين والفقهاء منهم أثرة في‮ ‬نفوس الكثير من المسلمين،‮ ‬وهم في‮ ‬موقع التقدير والاحترام في‮ ‬أوساطهم الإسلامية بتباين مشاربها ومذاهبها،‮ ‬متى ما سخروا الدين من أجل إصلاح المجتمع وتنويره والاجتهاد في‮ ‬البحث عن الجديد الذي‮ ‬يواكب العصر وينشد التطور والتقدم،‮ ‬مثل هؤلاء الرجال نحتاجهم لأنهم لم‮ ‬يضعوا أنفسهم في‮ ‬موضع التقديس ولم‮ ‬ينصبوا أنفسهم أوصياء على الدين والمسلمين ولم‮ ‬يوصدوا أبواب الاجتهاد والحوار ولم‮ ‬يقصوا الآخر بغرض ترجيح وتسييد ثقافة الصوت الواحد،‮ ‬صوتهم بالتحديد،‮ ‬ولم‮ ‬يعلنوا أمام الملأ بأن من‮ ‬يختلف معهم كافر وباطل وقبض ريح ولم‮ ‬يشحذوا سكاكين الحقد والكراهية في‮ ‬وجه من‮ ‬يختلف معهم ولم‮ ‬يرهبوا ويرعبوا من حاد عن دربهم لأنه استألف منهج أو عقيدة مغايرة لمسلكهم‮.‬
عندما نذكر هؤلاء الرجال تقفز إلى الذاكرة أسماء أسهمت في‮ ‬صنع الحضارة الإسلامية،‮ ‬من أمثال محمد عبده،‮ ‬وخيري‮ ‬الدين بشاره،‮ ‬ورفاعة الطهطاوي‮ ‬وجمال الدين الأفغاني‮ ‬والكواكبي‮ ‬وغيرهم في‮ ‬تلك الفترة أو ما بعدها،‮ ‬هؤلاء خاضوا معارك طويلة وشائكة من أجل التطور والتقدم والنهضة،‮ ‬من أجل الإنسان لا من أجل طائفة أو عرق أو ملة او نحلة،‮ ‬خاضوا هذه المعارك من فوق المنابر وفي‮ ‬قلب الحشود ولم‮ ‬يستغلوا‮ ‬يوما أسمائهم أو علمهم أو فقههم من أجل مصالح محدودة وضيقة،‮ ‬ولم‮ ‬يسعوا جاهدين من أجل إجبار الناس على تقديسهم وتبجيلهم،‮ ‬ورفضوا أشد الرفض في‮ ‬أن‮ ‬يكون هؤلاء الناس قطيعا أو ببغاوات أو رهن إشارة صوتهم الواحد الذي‮ ‬لا ثاني‮ ‬بعده أو مكرر‮.‬
مثل هؤلاء لا شك أن كثير من أهل الفكر التنويري‮ ‬يعتبرونهم فاتحة الطريق ومشعل التحول الحضاري‮ ‬في‮ ‬المجتمعات الإسلامية،‮ ‬ومفتاح الإيمان بالحرية والديمقراطية فيها،‮ ‬وكان تأثيرهم على من اختلف معهم إيجاباً‮ ‬فيما بعد تأثيراً‮ ‬قوياً‮ ‬ومشرفاً،‮ ‬ومؤكداً‮ ‬على أن تعاطي‮ ‬ثقافة هؤلاء الرجال التنويريين النهضويين لم‮ ‬ينطلق من التقديس أو الوصاية‮..‬ وكم هو جميل قول بوذا لأتباعه‮: ‘‬أخضعوا ما أقوله للاختبار،‮ ‬فإن صح فاعملوا به وإلا فلا‮’.‬
إذن الاختبار هو مختبر الوعي‮ ‬والفكر،‮ ‬مختبر الحوار والاختلاف الخلاق،‮ ‬مختبر لا‮ ‬يخلد من بوذا سوى أثر الفكر والبناء عليه،‮ ‬لا التعصب والتشدد فيه،‮ ‬مختبر سار على نهجه رواد النهضة من مختلف البلدان والحضارات والأديان والأعراق،‮ ‬لأنه وإن لم‮ ‬يصدر عن بوذا فإنه‮ ‬يصدر عن عقل حصيف ورؤية ثاقبة تذهب نحو الإعلاء من شأن الإنسان،‮ ‬وهذه المنطلقات الإنسانية الحضارية هي‮ ‬ما‮ ‬يفتقدها كثير من رجال الدين لدينا الذين بالغوا إلى حد الغلو في‮ ‬احتكار الفكر والمعرفة وفي‮ ‬تنصيب أنفسهم أوصياء على الدين والمسلمين وفي‮ ‬وضع ذواتهم في‮ ‬موضع القداسة وأن ما‮ ‬يصدر عنهم‮ ‬ينبغي‮ ‬أن‮ ‬يتبعه الكل من طائفتهم أو من طوائف مختلفة لأنه‮ ‬يصدر عن كلمة فصل وحجة وآية وأن من‮ ‬يشكك في‮ ‬هذه القداسة كافر أو عاصي‮ ‬أو مقرر بالناس،‮ ‬بل بات حتى الإختلاف المهذب مع أهل التقديس‮ ‬غير مقبول ومرفوض أمره جملة وتفصيلاً،‮ ‬والخشية كل الخشية أن‮ ‬يعلن مختلف في‮ ‬الرأي‮ ‬مع أهل القداسة ضرورة إزالة صفة القداسة عن هؤلاء وأمثالهم،‮ ‬ذلك أن مثل هذا الإعلان قد‮ ‬يؤدي‮ ‬إلى تقاذف تهم طائفية تؤول بالناس طوائف وأبرياء من كل طائفة إلى وضع لا‮ ‬يحمد عقباه،‮ ‬ولعلنا نلمس بذور ونذر‮ (‬ما لايحمد‮) ‬في‮ ‬تشدد بعض مريدي‮ ‬القداسة في‮ ‬صحافتنا المحلية وفي‮ ‬الندوات وفي‮ ‬خطابات وبيانات بعض الجماعات والجمعيات الدينية،‮ ‬وإنذاراتهم وتحذيراتهم لبعض من‮ ‬يختلف مع قداستهم باتت مكشوفة ومفضوحة،‮ ‬وكما لو أن هؤلاء المريدين‮ ‬يصرون على تطييف الشارع البحريني‮ ‬حتى لو صدرت الدعوة إلى هذا التطييف من رجل دين‮ ‬يتنفس من خلال خلايا أغلبها معطوب بحكم عوامل كثيرة،‮ ‬أو‮ ‬يصدر عن حجة فقدت مصداقيتها منذ زمن‮.‬
المشكلة الكبرى أن هؤلاء القداسيين‮ ‬يجدون من‮ ‬يتبعهم،‮ ‬والمشكلة الأكبر تكمن في‮ ‬هؤلاء التابعين لهم الذين‮ ‬يصرون على تقديس هؤلاء وإن لم‮ ‬يريدوا ويصرون على إيجاد مقدس وإن لم‮ ‬يجدوه،‮ ‬وكلما زاد الاعتقاد بمثل هؤلاء زاد عمى البصيرة وزاد‮ (‬بفضله‮) ‬التعصب والتشدد وازداد الشقاق واقترب موعد‮ (‬الفرقة‮)..‬ مثل هؤلاء‮ ‬يمضون عكس اتجاه الإصلاح المتجسدة أهدافه في‮ ‬بناء الإنسان الحديث والمعاصر،‮ ‬والسعي‮ ‬وراء تكوين مجتمع متعايش بطائفتيه الكريمتين وبمختلف المعتقدات والأديان‮.‬
مثل هؤلاء‮ ‬ينبغي‮ ‬أن‮ ‬يدركوا بأن لهم دوراً‮ ‬آخر‮ ‬غير الذي‮ ‬يضطلعون به الآن،‮ ‬دور الإصلاح والحوار الخلاق،‮ ‬دور استثمار المنابر للتقريب بين الناس بمختلف أديانهم وطوائفهم وأطيافهم،‮ ‬لا تحريضهم ضد هذا التقريب ومفاهيمه الإنسانية النبيلة،‮ ‬دور‮ ‬يقف ضد القداسة والوصاية و(القطعنة‮) ‬من أجل توسيع مدارك وآفاق عقل المجتمع الإصلاحي‮ ‬الذي‮ ‬ننشده،‮ ‬دور‮ ‬يرفع عقيرته في‮ ‬وجه من‮ ‬يرفع شعارات الطائفية وصور ممثليها الذين استثمروا الشباب وقودا لحرائقهم الطائفية،‮ ‬دور‮ ‬يبين بأن الشهيد شهيد الوطن لا شهيد الطائفة،‮ ‬وأن المنجز منجز أبناء الوطن لا منجز الطائفة،‮ ‬وأن الدين للمسلمين جمعاء لا للطائفة،‮ ‬وأن القداسة لله لا لرجال الطائفة وفقهائها‮.‬ انزلوا قليلاً‮ ‬أيها‮ (‬المقدسون‮) ‬في‮ ‬الأرض،‮ ‬فالسماء لا تحتفي‮ ‬ولا تستضيء إلا بمن كان من سلالة الحب والسلام والإنسان قبل الطائفة و(القدسي‮) ‬من البشر‮!!. ‬
 
صحيفة الوطن
20 فبراير 2008