لا شك أن لرجال الدين والفقهاء منهم أثرة في نفوس الكثير من المسلمين، وهم في موقع التقدير والاحترام في أوساطهم الإسلامية بتباين مشاربها ومذاهبها، متى ما سخروا الدين من أجل إصلاح المجتمع وتنويره والاجتهاد في البحث عن الجديد الذي يواكب العصر وينشد التطور والتقدم، مثل هؤلاء الرجال نحتاجهم لأنهم لم يضعوا أنفسهم في موضع التقديس ولم ينصبوا أنفسهم أوصياء على الدين والمسلمين ولم يوصدوا أبواب الاجتهاد والحوار ولم يقصوا الآخر بغرض ترجيح وتسييد ثقافة الصوت الواحد، صوتهم بالتحديد، ولم يعلنوا أمام الملأ بأن من يختلف معهم كافر وباطل وقبض ريح ولم يشحذوا سكاكين الحقد والكراهية في وجه من يختلف معهم ولم يرهبوا ويرعبوا من حاد عن دربهم لأنه استألف منهج أو عقيدة مغايرة لمسلكهم.
عندما نذكر هؤلاء الرجال تقفز إلى الذاكرة أسماء أسهمت في صنع الحضارة الإسلامية، من أمثال محمد عبده، وخيري الدين بشاره، ورفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني والكواكبي وغيرهم في تلك الفترة أو ما بعدها، هؤلاء خاضوا معارك طويلة وشائكة من أجل التطور والتقدم والنهضة، من أجل الإنسان لا من أجل طائفة أو عرق أو ملة او نحلة، خاضوا هذه المعارك من فوق المنابر وفي قلب الحشود ولم يستغلوا يوما أسمائهم أو علمهم أو فقههم من أجل مصالح محدودة وضيقة، ولم يسعوا جاهدين من أجل إجبار الناس على تقديسهم وتبجيلهم، ورفضوا أشد الرفض في أن يكون هؤلاء الناس قطيعا أو ببغاوات أو رهن إشارة صوتهم الواحد الذي لا ثاني بعده أو مكرر.
مثل هؤلاء لا شك أن كثير من أهل الفكر التنويري يعتبرونهم فاتحة الطريق ومشعل التحول الحضاري في المجتمعات الإسلامية، ومفتاح الإيمان بالحرية والديمقراطية فيها، وكان تأثيرهم على من اختلف معهم إيجاباً فيما بعد تأثيراً قوياً ومشرفاً، ومؤكداً على أن تعاطي ثقافة هؤلاء الرجال التنويريين النهضويين لم ينطلق من التقديس أو الوصاية.. وكم هو جميل قول بوذا لأتباعه: ‘أخضعوا ما أقوله للاختبار، فإن صح فاعملوا به وإلا فلا’.
إذن الاختبار هو مختبر الوعي والفكر، مختبر الحوار والاختلاف الخلاق، مختبر لا يخلد من بوذا سوى أثر الفكر والبناء عليه، لا التعصب والتشدد فيه، مختبر سار على نهجه رواد النهضة من مختلف البلدان والحضارات والأديان والأعراق، لأنه وإن لم يصدر عن بوذا فإنه يصدر عن عقل حصيف ورؤية ثاقبة تذهب نحو الإعلاء من شأن الإنسان، وهذه المنطلقات الإنسانية الحضارية هي ما يفتقدها كثير من رجال الدين لدينا الذين بالغوا إلى حد الغلو في احتكار الفكر والمعرفة وفي تنصيب أنفسهم أوصياء على الدين والمسلمين وفي وضع ذواتهم في موضع القداسة وأن ما يصدر عنهم ينبغي أن يتبعه الكل من طائفتهم أو من طوائف مختلفة لأنه يصدر عن كلمة فصل وحجة وآية وأن من يشكك في هذه القداسة كافر أو عاصي أو مقرر بالناس، بل بات حتى الإختلاف المهذب مع أهل التقديس غير مقبول ومرفوض أمره جملة وتفصيلاً، والخشية كل الخشية أن يعلن مختلف في الرأي مع أهل القداسة ضرورة إزالة صفة القداسة عن هؤلاء وأمثالهم، ذلك أن مثل هذا الإعلان قد يؤدي إلى تقاذف تهم طائفية تؤول بالناس طوائف وأبرياء من كل طائفة إلى وضع لا يحمد عقباه، ولعلنا نلمس بذور ونذر (ما لايحمد) في تشدد بعض مريدي القداسة في صحافتنا المحلية وفي الندوات وفي خطابات وبيانات بعض الجماعات والجمعيات الدينية، وإنذاراتهم وتحذيراتهم لبعض من يختلف مع قداستهم باتت مكشوفة ومفضوحة، وكما لو أن هؤلاء المريدين يصرون على تطييف الشارع البحريني حتى لو صدرت الدعوة إلى هذا التطييف من رجل دين يتنفس من خلال خلايا أغلبها معطوب بحكم عوامل كثيرة، أو يصدر عن حجة فقدت مصداقيتها منذ زمن.
المشكلة الكبرى أن هؤلاء القداسيين يجدون من يتبعهم، والمشكلة الأكبر تكمن في هؤلاء التابعين لهم الذين يصرون على تقديس هؤلاء وإن لم يريدوا ويصرون على إيجاد مقدس وإن لم يجدوه، وكلما زاد الاعتقاد بمثل هؤلاء زاد عمى البصيرة وزاد (بفضله) التعصب والتشدد وازداد الشقاق واقترب موعد (الفرقة).. مثل هؤلاء يمضون عكس اتجاه الإصلاح المتجسدة أهدافه في بناء الإنسان الحديث والمعاصر، والسعي وراء تكوين مجتمع متعايش بطائفتيه الكريمتين وبمختلف المعتقدات والأديان.
مثل هؤلاء ينبغي أن يدركوا بأن لهم دوراً آخر غير الذي يضطلعون به الآن، دور الإصلاح والحوار الخلاق، دور استثمار المنابر للتقريب بين الناس بمختلف أديانهم وطوائفهم وأطيافهم، لا تحريضهم ضد هذا التقريب ومفاهيمه الإنسانية النبيلة، دور يقف ضد القداسة والوصاية و(القطعنة) من أجل توسيع مدارك وآفاق عقل المجتمع الإصلاحي الذي ننشده، دور يرفع عقيرته في وجه من يرفع شعارات الطائفية وصور ممثليها الذين استثمروا الشباب وقودا لحرائقهم الطائفية، دور يبين بأن الشهيد شهيد الوطن لا شهيد الطائفة، وأن المنجز منجز أبناء الوطن لا منجز الطائفة، وأن الدين للمسلمين جمعاء لا للطائفة، وأن القداسة لله لا لرجال الطائفة وفقهائها. انزلوا قليلاً أيها (المقدسون) في الأرض، فالسماء لا تحتفي ولا تستضيء إلا بمن كان من سلالة الحب والسلام والإنسان قبل الطائفة و(القدسي) من البشر!!.
صحيفة الوطن
20 فبراير 2008