بات من المسلم به ان ثمة ارتباطا طرديا بين تزايد العمالة الوافدة الآسيوية وبين تصاعد المخاطر التي تهدد الهوية الوطنية والثقافية لبلدان الخليج العربية، فلم تعد زيادة استقدام هذه العمالة الوافدة، بمعدلات كبيرة غير مسبوقة منذ نحو عقد تهدد فرص العمالة الوطنية فحسب او تهدد بارتفاع نسب البطالة ببلدان مجلس التعاون فقط، بل باتت تتشابك هذه الآثار السلبية الخطيرة مع مخاطر مسخ وتغيير ثوابت الهوية الوطنية في اللغة والثقافة والعادات والدين. وبعد عقود طويلة من اهمال هذه القضية او التهوين من مخاطر وتداعياتها على الهوية الثقافية أضحت هذه المسألة منذ سنوات قليلة خلت تشغل هاجساً وقلقاً لدى اغلب دول مجلس التعاون. واخذت هذه الدول تستشعر على نحو متزايد بالخطر الداهم الذي يشكله تزايد موجات استقدام العمالة الوافدة الاجنبية على التركيبة الديموغرافية لهذه الدول وعلى هويتها الثقافية الوطنية. ولعل البحرين والسعودية والإمارات في مقدمة بلدان مجلس التعاون التي أخذت تعرب علنياً وبشجاعة عن خشيتها وقلقها المتزايد من مخاطر تزايد العمالة الاجنبية بقفزات رهيبة تنذر بتهديد ثوابت وركائز الهوية الوطنية بكل أبعادها اللغوية والثقافية والدينية والقيمية والقومية، كما تنذر أيضا بتحول شعوب هذه البلدان الى اقليات داخل بلدانها في محيط حجم العمالة الاجنبية الكاسح. وفي هذا الصدد، وبالنظر لما لهذه القضية من ترابط بإصلاح سوق العمل فإن هذه البلدان تبذل جهوداً للتخفيف من معدلات وموجات هذه الهجرة المتدفقة، وتعزيز فرص توطين الوظائف وزيادة فرص انخراط العمالة الوطنية الشابة المؤهلة الى سوق العمل. وتفنيد كل الحجج التي يتذرع بها كثير من ارباب العمل الخليجيين لتفضيل العمالة الاجنبية على العمالة الوطنية. ولعل سمو ولي العهد الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة في طليعة من يولون هذه المسألة الوطنية الملحة اهتماماً كبيراً وذلك بحكم استلامه ملف الاصلاح الاقتصادي بوجه عام واصلاح سوق العمل بوجه خاص وكان ابرز واجرأ تصريح له لافت للنظر ما صرح به لقناة “العربية” في ديسمبر الماضي ان الرسوم الجديدة على العمالة الوافدة المستقدمة الى البحرين هي جزء مهم من اصلاحات سوق العمل ورفض الشكوى من ارتفاعها. وانتقد سموه فرض البحرنة بالقوة على بعض الشركات، وهي عادة ما تكون الشركات والمؤسسات الصغيرة في مقابل عدم فرضها على المؤسسات والشركات الكبيرة. واكد ان «فتح اقتصادنا على العمالة الرخيصة يعني اننا سنستورد مشكلات الآخرين«. والأهم من ذلك فإن ولي العهد البحريني لم يتوان عن التأكيد أن من اهداف إصلاح سوق العمل “انهاء ذريعة بعض رجال الاعمال التي تدعي ان البحريني لا يعمل” وهي ذريعة ما انفك الكثير من رجال الأعمال والمقاولين وارباب المؤسسات يرددونها بلا حياء على نحو تعميمي وبما يعني ضمنيا ان شعبنا بأكمله مطبوع على الكسل وعدم الكفاءة. بموازاة ذلك، وكما اعلن في الصحافة المحلية، فإن جلالة الملك يولي هذه القضية اهتمامه حيث وجه الجهات المعنية لتخصيص 15 مليون دينار لتوظيف العاطلين الجامعيين وذلك خلال مقابلته وزير العمل مجيد العلوي خلال الشهر الماضي. ولا شك أن تعزيز مثل هذه التدابير وسرعة تنفيذها ستصب في النهاية لصالح التقليل تدريجياً من الاعتماد على العمالة الوافدة وقطع شوط مهم من خطط اصلاحات سوق العمل بما في ذلك تصحيح اوضاع العمالة السائبة او غير القانونية. وفي هذا الصدد تشير تقديرات هيئة سوق العمل طبقاً لما هو منشور في الصحافة المحلية خلال الشهر الماضي انه تم الانتهاء من اجراءات تسفير 12600 عامل اجنبي رحل منهم 90% من اراضي المملكة في حين بلغ من صححوا اوضاعهم 5،61 ألف عامل فيما بلغ عدد الهاربين المبلغ عنهم 24 ألف عامل. وإلى جانب ذلك وفي اطار هذه الجهود المبذولة للحد من آثار العمالة الوافدة على التركيبة الديموغرافية لدول مجلس التعاون انشئت في اطار مجلس وزراء العمل الخليجيين، لجنة فنية مشتركة لدراسة آثار العمالة الوافدة على ديموغرافية دول مجلس التعاون وكان لكاتب هذه السطور شرف المشاركة في اجتماعاتها طوال السنوات الاربع الماضية. وقد لعبت مملكة البحرين دوراً مميزاً في اعمالها. وفي هذا الصدد فقد كان ابرز انجاز حققته هذه اللجنة الفنية التي كانت موضع اهتمام ومتابعة وزير العمل مجيد العلوي الموافقة على المقترح البحريني بألا تتجاوز مدة بقاء العامل الوافد عن الست السنوات مع استثناء المهن والتخصصات النادرة وبحيث لا يزيد بقاء العمالة الوافدة فيها على عشر سنوات، ويمكن القول بكل اطمئنان إنه تحت تأثير هذا المقترح البحريني والذي دعا إليه وناقشه مراراً وزير العمل البحريني في اجتماعات مجلس وزراء العمل الخليجي أصبحت دول الخليج اقرب الى القناعة للأخذ به كاقتراح عملي لا مفر منه هذا اذا ما ارادت دول الخليج حقاً ان تترجم إلى حيز الواقع هواجسها وقلقها من مخاطر تزايد العمالة الوافدة على تركيبتها السكانية وعلى هويتها الوطنية وعلى آفاق فرص فتح سوق العمل للعمالة الوطنية والتقليل من نسب البطالة. ولعل ما صرح به مؤخراً وزير العمل السعودي لصحيفة “الاقتصادية” عن تأييده لوضع سقف زمني لاقامة العمال الاجانب في دول الخليج، ووضع ضوابط لاستقدام هذه العمالة ولاسيما المعروفة بكثرة جرائمها وابدائه كذلك المخاوف من فرض واقع تجنيس العمال الاجانب الذين طالت اقاماتهم نقول إن هذا التصريح الذي ادلى به الوزير السعودي يؤكد التجاوب مع المقترح البحريني المشار إليه. وكان وزير العمل السعودي نفسه في محاضرة له بوزارة العمل السعودية قد أبدى جزعه من بلوغ العمالة الوافدة المستقدمة من الخارج خلال العام الماضي فقط الى ما يقرب من مليوني عامل، معرباً عن طموحه في ان يقللها الى 400 ألف عامل سنوياً. في حين اشارت تقديرات البحرين الإحصائية الاخيرة الى ان أكثر من نصف سكان البحرين هم من الاجانب. والحال فإنه اذا ما عملت دول الخليج حقاً على تنفيذ ما تم التوصل إليه في توصيات اللجنة الفنية لدراسة آثار العمالة الوافدة على التركيبة الديموغرافية لدول مجلس التعاون والتي شارفت مهمتها على الانتهاء، واذا ما قرر مجلس وزراء العمل الخليجي القادم تبني هذه التوصيات بتحديد السقف الزمني المقترح من قبل البحرين لبقاء العمالة الوافدة ومن ثم جرى تبني هذه المقترحات من قبل المجلس الأعلى (القمة الخليجية) فإن ذلك سيكون انجازاً مهماً وبداية فعلية مشجعة على طريق الحد من آثار هذه العمالة على التركيبة السكانية وعلى الهوية الوطنية والثقافية وعلى فرص التوظيف للمواطنين.
صحيفة اخبار الخليج
20 فبراير 2008