استعرضنا في المقال السابق موجة التضخم النقدي التي تجتاح العالم منذ حوالي أربع سنوات، متجسدة في ارتفاع كُلَف الإنتاج لمعظم السلع والخدمات الخاضعة للتداول في المجالين المحلي والعالمي، وكيف أن هذا التضخم قد ارتفع إلى مستويات مقلقة في دول مجلس التعاون متجسداً في ارتفاعات حادة لأسعار سلة واسعة من السلع والخدمات وانعكس بالتالي سلباً على القدرات الشرائية والمستويات المعيشية لشرائح واسعة من مواطني دول التعاون، وهو ما اضطر الحكومات الخليجية لاستخدام أدوات السياسة المالية للتخفيف من وطأة هذا المنغص التنموي وذلك برفع رواتب العاملين في الإدارة الحكومية.
وقد أوضحنا كيف تضافرت عوامل خارجية (ارتفاع كلف إنتاج السلع والخدمات عالمياً نتيجة لارتفاع أسعار المدخلات الإنتاجية لاسيما النفط والمعادن والمواد الخام الأخرى وتميز الدورة الاقتصادية الحالية بصعود حجم الطلب الكلي فيها وطول فترتها الانتعاشية)، وانخفاض أسعار صرف عملات دول التعاون مقابل العملات العالمية نتيجة لانخفاض سعر صرف الدولار المرتبطة به، وعوامل داخلية (حالة الرواج الاقتصادي التي تشهدها الاقتصادات الخليجية والطفرة العقارية والاستثمارية الخاصة والعامة). ولأنه لا يبدو في الأفق ما يشير إلى انقشاع موجة التضخم في الأمد القريب ولا ما يشير إلى وضع خطط خليجية مضادة لموجة ارتفاع الأسعار، فلا يبقى أمام جمهور المستهلكين من خيار سوى اللجوء إلى ذات الأسلوب الذي تتبعه الدول عادة عندما ينال منها اللاتوازن الاقتصادي الناجم عن تعاظم جانب المصروفات في موازناتها مقابل عدم تحسن أو تراجع جانب الإيرادات، فتلجأ إلى خفض نفقاتها الجارية والرأسمالية (الاستثمارية). إذ في وسع الأفراد والأسر أن يبذلوا جهداً بسيطاً في إعادة هيكلة وجدولة أولوياتهم الإنفاقية، فيعمدون إلى ترشيد إنفاقهم وفقاً لمعيار الأولوية والأهمية.
فيستغنون في هذه الحالة عن عدد مختار، على أساس معيار الأولوية، من السلع والخدمات التي لا يؤثر الاستغناء عنها في نمط حياتهم ولا مستوى معيشتهم بوجه عام. ويمكن الاستعانة في ذلك أيضاً بالبديل السلعي، خصوصاً وأنه متوفر في ظل اتساع المنافسة الدولية في مجال الإنتاج السلعي والتي انعكست في إنتاج شرائح عريضة من ذات الصنف السلعي بمواصفات متغيرة وبأسعار مختلفة وتنافسية. ولو توقف المستهلك عن مسايرة استدراجات المنتجين والموزعين السلعيين، وأعمل عقله ورشَّد سلوكه الاستهلاكي لتحول ارتفاع أسعار السلع من مصدر ثراء إلى وبال على أولئك ‘التجار’ (المنتجين والموزعين).
ولعلنا نتذكر هنا حملة مقاطعة منتجات الألبان ومشتقاتها التي دعا إليها الآلاف من المواطنين السعوديين منتصف شهر يناير الماضي نتيجة لقيام شركات الألبان برفع أسعار الألبان بداية العام الجديد، حيث تجاوب المواطنون السعوديون مع تلك الدعوات التي وصلتهم من خلال أكثر من وسيلة اتصال بدءاً من رسائل الجوال ومروراً بمواقع الإنترنت وانتهاءً بمنابر المساجد. وقد غطى شعار الحملة الشعبية لمقاطعة منتجات الألبان ‘خلوها تخيس’ معظم واجهات المنتديات والمدونات السعودية، ناهيك عن تداوله عبر الهواتف النقالة وذلك على مدى سبعة أيام هي فترة صلاحية العبوة الواحدة من اللبن أو الحليب. كما انطوت الحملة على مواقف من خلال تصميم شعارات تعبر عن الاحتجاج على موجة الغلاء بشكل عام. وقد تدخلت وزارة التجارة السعودية بعد النجاح الذي حققته الحملة وفاوضت بعض الشركات وأقنعتها بالتراجع عن رفع أسعارها. وهكذا فإن على المستهلكين أن يعوا بأن نصف الحل يقع بأيديهم، وأن ارتفاع الأسعار لن يتوقف مادامت الأسباب المفضية له قائمة، خصوصاً مع توقع لجوء المؤسسات والشركات إلى توجيه ميزانياتها خلال الفترة الحرجة لشراء وتوفير مستلزماتها واحتياجاتها من المواد الخام، فضلاً عن عدم واقعية ومحدودية فاعلية حُقن رفع الرواتب والأجور في معالجة الأزمة.
وتفيدنا في هذا المقام النظرية الاقتصادية التي تقول بأن سعر السلعة يتأثر بمتغيرات عديدة منها ما يمكن قياسه بوحدات كمية أو نقدية وتسمى بالمتغيرات الكمية مثل الكمية المطلوبة من السلعة، وسعرها، ومستوى دخل المستهلك، وأسعار السلع الأخرى، وعدد السكان. أما المتغيرات الأخرى فتسمى بالمتغيرات النوعية أو الكيفية، وهي التي يصعب قياسها بوحدات كمية، مثل ذوق أو تفضيلات المستهلك، العوامل الموسمية، طريقة توزيع الدخل القومي بين أفراد المجتمع، وأخيراً وليس آخراً وعي المستهلك وحصافته واللذين سيشكلان في المستقبل - من وجهة نظرنا المتواضعة - حجر الزاوية في الأبحاث والدراسات الرأسمالية ومدارس وطرائق التسويق والتوزيع والتسعير السلعي. فمع غزارة التدفق المعلوماتي عبر العالم وسهولة وصول المعلومة إلى مستهلكيها فإن الرهان على ارتفاع درجة وعي وحصافة المستهلك سيكون رهاناً مسوغاً.
صحيفة الوطن
17 فبراير 2008